حين هجرنا البلاغة

لآفاق حرة

 

حين هجرنا البلاغة
بقبم. نجم_الدين سمّان. سوريا.

كان أستاذنا د. فايز الداية في كلية الآداب بجامعة حلب؛ من أكثر أساتذتنا دماثةً وتفهماً.. لا تُفارقه ابتسامةٌ كُنّا نُشبهها بالاستعارة المَكنِيَة حتى ليَكاد مِن تواضُعِهِ أن يُضمِرُها وهي مُعلَنةُ بين شفتيه؛ وكان يُدرسنا مادةَ البلاغة ومادةَ عِلم الدلالة.. مُركزاً على الجُرجانيّ وأسبقيته قبل “علم اللسانيات الغربيّ ” كما كان يُكثِر مِن ذِكر كلمةِ ” السِيَاق ” في محاضراته وحتى في صيغة أسئلة الامتحان: اشرَح قصيدةَ أبي تمّام بلاغياً مِن داخل سِيَاقِها.. الخ. فإذا خرجتُ من امتحانِه.. أخذتُ أترنّم بِقَدٍ حلبيٍ مِن تحويري: “ومن السِيَاق.. لرميلك حالي”. حتى نقلَ له أحدُهُم مُساهمتي الغنائيّة الساخرة؛ فلمّا قابلني.. همسَ لي: – أحمَدُ اللهَ بأنّ صوتَكَ ليس بِمَنزلةِ صوتِ صباح فخري؛ فأجيبه: ولا يقعُ في سِيَاقِ صوتِ فهد بلّان. ونضحك سويةً: أستاذاً وطالبه في رُدُهات الكلية.
يتميّز فايز الداية بأنّ فُصحاه سَلِسَة بأكثرَ مِن كلِّ لهجاتنا العاميّة؛ ويستمرّ بالتحدث فيها طوالَ ليلِهِ ونهارِِه؛ حتى أنّي قد ألّفتُ قِصةً شفاهية؛ بأنّ سيارة كلية الآداب “الصالون فولكسفاكن” قد تعطلت يوماً؛ فصعدَ معي باص النقل الداخلي ليَصِلَ إلى بيته؛ وكنّا نصعدُ من الباب الخلفيّ حيث الجابي وننزل من الأماميّ؛ ومَدَدتُ يدي بليرةٍ لأدفع؛ فمنعني الدكتور فايز هامساً بحزم: – أنت طالب وأنا لي راتبٌ؛ ولن تدفعَ البته. ثمّ التفت إلى الجابي قائلاً بفُصحَاه: – اقطع لنا.. تذكرتين. فرفع الجابي الحلبيّ رأسَهُ: – إشّو قلت خيّو ؟!؛ فاستدركتُه: اقطعلنا بيليتين.
تمَّ تداولُ القصةِ شِفاهاً حتى وصلَت إليه؛ فعلّقَ مُبتسماً: – ما أظنّك ستجلِبُ الجابي إلى محاضراتي.
شاركنا الدكتور فايز في أغلبِ فعاليات المُلتقى الأدبي لجامعة حلب مَطالِعَ الثمانينات من قرنٍٍ مضى؛ وفي الندوات بعدَ كلِّ أمسيةٍ مُنافِحاًَ عن بلاغة الجُرجانيّ؛ بينما كنّا نُبلور لغاتٍ خاصةٍ بنا: شعراً وقصة؛ وبلاغةً حداثيةً مُختلفة تماماً؛ وكان الدكتور الدايه يُنبهنا بدماثته إذا استشطنا في ذلك؛ ويُحاول أن لا نقطعَ مع تراثنا؛ ونحن نُراوِغُهُ بمُزاحِنا؛ حتى ألقى عبد اللطيف خطاب قصيدته ” أفول نجم الديكتاتور ” وكانت صرخةَ شعريةً مُتفرِدَة؛ فقال وهو يُلقي: ” إذِنَ ” بدلاً عن ” إذاً ” فنبهه الدكتور فايز: – قُلها: إذاً؛ فأعاد عبد اللطيف المقطعَ قائلاً: – إذِن؛ وأعادها ثانيةً: إذِن.. فضجت القاعةُ بالضحك؛ نظرنا إلى الدكتور فايز فوجدناه يضحك مثلنا؛ لا يُشبهه في التعامل مع جيلٍ مُشاغب مثلنا سوى صبر ورهافة الدكتور فؤاد مرعي.. ممّا لا نجده في دكاترة الألقاب الخُلبية الذين عفّشوا المقاعدَ الأكاديمية قبل تعفيش البلد وتعفيش بيوتنا بكثير.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!