فلنحذر من سيطرة الهواتف الذّكيّة/ بقلم : الناقدة مادونا عسكر/ لبنان

يهتمّ الوالدان بشكل أساسيّ بحياة أبنائهم الجسدّيّة ومستقبلهم المادّيّ. فيؤمّنون لهم كلّ المتطلّبات العصريّة بدافع المحبّة. ولا ريب أنّ الأمر يحتاج العناء، وأنّ الوالدين ملزمان بالسّعي جاهدين وبإخلاص وبالالتزام الجدّيّ بهم وبعنايتهم. بيد أنّه قد يغيب عن محبّتهم الوالديّة الاعتناء بالجانب الإنسانيّ لبنيهم؛ فنراه اليوم متدهوراً حتّى لا نقول متلاشٍ. وكأنّي بالأهل استقالوا من تربية أبنائهم وأوكلوا هذه التّربية إلى مجموعة آلات يتمّ استخدامها بطريقة غير منتظمة.

بغضّ النّظر عن شتّى الأمور الّتي تهزّ أركان إنسانيّة الإنسان وتهدّد جوهرها. وبغضّ النّظر عن الحديث المتكرّر عن أهميّة مراقبة الأبناء وسلوكيّاتهم وإلام ستؤدّي إن لم يتمّ التّركيز عليها. لا بدّ من الالتفات جدّيّاً إلى الخطر الّذي يتسلّل إلى إنسانيّتهم ويعيق تقدّمها، وسيقودها لا محالة إلى الموت الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ. ذاك الخطر الّذي يستمتع الأبناء وتحديداً الأطفال باستخدامه، ألا وهو الهاتف الذّكيّ.

إنّ الآلة المتطوّرة ليست شرّاً بحدّ ذاتها، ولكن استخدامها عشوائيّاً ودون مراقبة يؤدّي إلى شرّ قد يكون غير متوقّع. واستخدام هذه الهواتف عشوائيّاً، دون الأخذ بعين الاعتبار النّموّ الفكريّ المراد من خلاله بناء إنسان يخدم المجتمع والوطن، ويبني مستقبلاً تنعم به الأجيال جيلاً بعد جيل، يجعل الأبناء يرزحون تحت نير الآلة الّتي تستعبدهم بإرادتهم. وتستبيح إنسانيّتهم وتقيّدها بغلال المتعة واللّذة. وعدم إدراك الوالدين لهذا الأمر، وذلك من خلال تأمين هذه الهواتف بدافع المحبّة ودون وعي حقيقيّ لمخاطره، يمهّد لموت الأطفال باكراً من النّاحية الإنسانيّة التّنمويّة، ويقضي على طاقتهم المعدّة للخير الخاصّ والعامّ.

بمراقبة بسيطة لنمط عيش أبنائنا وعبوديّتهم لهذه الآلة المسمّاة ذكيّة، نكتشف المخاطر الّتي يعانون منها الآن. كما سيتبيّن لنا نمط حياتهم المستقبليّ الرّتيب والقاتل.

أينما وجد الطّفل، يحمل معه هاتفه مستخدماً إيّاه بشكل مفرط. في البيت، في المدرسة أحياناً، في الرّحلات، في دور العبادة… حتّى إذا اجتمع الأصدقاء يمضون وقتهم كلّ على حدة باستخدام الهاتف. والسّؤال الّذي لا إجابة منطقيّة له: ماذا يفيد الهاتف الذّكيّ أطفالاً يحتاجون إلى تفريغ طاقتهم بدل الجلوس لساعات لا تعدّ برفقة آلة؟ إنّ هذا الجماد الّذي يسلبهم طاقتهم، ونموّ فكرهم، ويقيّد تطوّر منطقهم، وانطلاق خيالهم، واكتشاف إبداعهم، يحوّلهم إلى آلات جامدة غير نافعة، يغتصب طفولتهم، وينتهك مراهقتهم وقدرتها على التّمرّد الإيجابيّ الّذي يمكن أن يؤسّس إلى كسر التّقليد البالي والتّقدّم في التّحرّر الإنسانيّ. وتخطف منهم إبداع بلوغهم وقدرتهم على الخلق والابتكار وتأمين استمراريّة الحياة الفكريّة.

نلاحظ أنّ أبناءنا وأثناء عدم استخدامهم الهاتف الذّكيّ، إمّا يثرثرون كثيراً، أو يتمحور حديثهم حول ما شاهدوه من ألعاب أو أفلام أو ما شابه، أو يركضون بشكل فوضويّ ظنّاً منهم أنّهم يلعبون. ما يفسّر أنّ طاقتهم مخدّرة أثناء الجلوس أمام الهاتف، ولدى امتناعهم عنه تستيقظ هذه الطّاقة فيفرغونها عبثيّاً وفوضويّاً بدل أن تُستهلك في ما يفيدهم وينمّيهم. في المقابل، تحدّ هذه الآلة من خيالهم، العنصر المهمّ في فكر الطّفل الّذي يفجّر إبداعه على جميع المستويات. وبالتّالي فنحن أمام جيل فارغ، محدود الفكر والتّطلّعات، يواجه صعوبات في ممارسة حياته الطّبيعيّة، إِنْ من جهة التّعلّم، وإن من جهة الخلق. وبتشجيع أبنائنا على استخدام هذه الهواتف، بهدف تسليتهم، أو بهدف راحتنا الشّخصيّة نربّي جيلاً منحني الأعناق بشكل دائم. لا يدرك ما يدور حوله، وإن أدرك لا يقوى على الفهم أو المعالجة. جيل يهدر الوقت بغير منفعة، يجهل كيفيّة البحث لبلوغ المعرفة، ينتهج سبل السّطحيّة والجهل، يقتل حرّيّته بيده، لأنّ آلة صغيرة تستعبده وتنتزع منه قدرته على تحديد أهدافه والسعي إلى تحقيقها.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!