قراءة في نصّ ( موسيقى الحياة الخشبيّة) للشّاعر محمد صالح

بقلم: الشاعرالسيد فرج الشقوير (مصر )

………………………………

لكلّ شاعرٍ تجربته التي يتفتّقُ عنها النّص وتأتي عظمة النّص من قدرته على وضع القارئ أمام مشهديّته الخاصة وتجربته هو وكأنما كتبها الشّاعر له خصّيصاً فلا تبقى التجربة الشعرية قاصرة على كاتبها فنقرأ النّصّ كأنه يكشفنا نحن ويبكي عنّا ويفرح عنّا وتلك متعة الإبداع أن يكون مشاعاً وبألف وجه تلبسه كلّ تجربة شخصية ويتلبّسها… منْ منا لم تتشابه تجاربه مع قصيدة فبكي معها؟

النّصّ الذي نحن بصدده يقذف في قلبك عالماً كاملاً بمشتملاته،.. العنوان وعلاقته بوجع النصّ (موسيقى الحياة الخشبيّة) تلك الموسيقى التي تصاحب الروح الشفافة في مرحلة ما من العمر والذي يُسرعُ بنا من المنطقة المحشوة بالآمال والعشق واللعب والحب وصخب الحياة… تلك المرحلة التي يبدو كل ما فيها قابل لأن يكون حتى مستحيلاته تبدو ممكنة إلى منطقة الحياة الخشبية، تلك التي يضيق فيها صندوق الجسد عن أمانيه الفسيحة.. لحظة الآن التي تعاش بآلية عاجزة عن غد وما أخذت من أمس مأمولها.. مرحلة الإجترار التي تأخذك للخلف هرباً من لحظتك الضيقة والمأساوية فالخلف جميلٌ دائماً وكلمة زمان لها طعم في فم الجميع مهما كانت آلام زمان هذا فهو انت الحلو.. أنت الطفل.. أنت الشاب… انت الحياة التي لم تكن خشبيّة أبداً ولو لم تقتنصها كما تأملت… على الطاولة الأخرى يجلسان.. بالتأكيد يجلسان.. ما المغزى من التأكيد وقد قرر أنهما يجلسان؟ هل يتحدث عن حبيبين جلس يراقبهما عن كثب؟ بين هالة من الأحلام والدخان يجلسان حالة قد نراها كباقي المشهد.. قد نرى المشهد الصّامت وتلامس الأصابع وتحسس الجيوب.. السؤال.. من أين عرف الشاعر وهما صامتان أن هناك صخب وعواصف واعاصير تجتاحهما؟ هذا المشهد يخبرك في براعة أنّه مجتر وأنْ الطاولة فارغة بدليل التأكيد أنهما يجلسان.. نعم يجلسان وكأنّه يؤكد لنا كل لحظة سرعة الزمن أنهما يجلسان في أمسه الذي نراه طافحاً في النّص كموسيقى حزينه قد لا يسمعها البعض.. مشهد أراه بأمّ رأسي ماثلاً كحقيقة لا تقبل الشّك ، وهذا التّقرير والتأكيد على خلُوّ الجيوب إلّا من البؤس وأزيز الأمنيات.. حالة لا يمكن للمراقب ان يراها بعينه.. لابد من معلومة مؤكدة.. هذا المعلوم في تأكيد الشاعر يؤكد إجترار المشهد أنا هو الجالس قبالتي برجواته وطموحاته بصباه الطافح بالصّحة وبصّة العافية في عينيه ووجهه انا هو الذي يجلس هناك بجيب يضيق عن كوب شاى ويئن بحبه.. هي هي التي معي لم ترَى شصّ الغد يصطاد أمنياتها بلا انتباه

.. منشغلين بتلك الموسيقى المعديَة كإنفلوانزا.. تُصيب العصافير.. تصيب الأحذية.. تصيب إلطّاولة

وتصيب النّادل بالشعر.. النّادل شاهد على الكثير من المشاهد النّادل لم يتم إيراده في المشهديّة عبثاً كنوع من التّفاصيل المملة لا.. النّادل هو الزمن الذي يضحك على كل المتعاقبين على الكازينو.. النّادل من ثوابت المكان كالشارع الذي يُداس يومياً ويحفظ بصمات الأقدام ويعرف وجهتنا وربما مصائرنا فنحن من نمر عليه مختلفين كل ساعة عن سابقتها لا نلحظُ المفقود والتغير والممنوح والمسلوب منا.. يعرف الشعرة التي شاخت دون أن نلتفت إليها.. يعرف مآلات العشاق وتلك النظرات ذات المعنى لمكان كنا نعرفه.. النّادل وحده حكاية داخل النّص نغفلُ عنه ولا يغفلُ عنّا.. تلك العصافير التي تقتسم طعامها معهما لتزيل الإحراج ولتحفظ ماء الوجه.. هذا الشهيد الذي يلقى آخر ابتسامة إليهما فلم يعد في حاجة إليها.. مات قبل ان يرى شجرة أثمرت من دمائه فلا ضير ان يترك ابتسامته كعاملٍ صالح وكصدقة جارية رغم أنه يعرف ما ستؤول إليه الأيام.. حتى السٍكير الذي قد يفرّط بما لا يمكن التفريط به لقاء رشفة كان يُساهم في المشهديّة

… يترك الشاعر المنظور فجأة وينتقل بنا للمحاكمة الدّاخلِية.. لمكتب التحقيق.. الضمير الذي يلومه على إضاعة الممكن كما نفعل جميعاِ بانشغالنا عما يمكن تحقيقة بصعوبات كيف يمكن تحقيقه…. تلك العرقلات التي تكعبلنا في الطريق فتصرفنا عن الممكن بعقبات نختلقها.. ربما بحبنا للبكاء نحبُّ أن تضيع منّا الأحلام لنبكي.. وكأن الغاية البكاء لا الحلم…. فياتي الشهود جميعاً إلى محكمة الوقت الضّائع.. فيؤكد النّادل وتُقسم إلطّاولة ويبكي الشهيد والمكان والسكّير

النهر والعصافير ولربما الشارع بارصفته الكل يؤكد أنهما كانا يجلسان.. كل يوم يجلسان وبشخوص تتغير.. يبكي الجميع على نفس الغلطة التي يرتكبها المتعاقبون على كازينو الحياة ولا ينهضون من على طاولاتهم إلّا بظلالهم المنهكة ولا يقوى أيُّ منهما على حمل الآخر…. نصّ أحدث فيّ هذا المنظور والذى ليس بالضرورة أن يقترب من تجربة الشاعر لكن تأتي عظمة النّص بما يثيره من زوابع لدى المتلقّي… فهل قرأه احدكم بهذا المنظور؟ أعرف أننا سنقول نعم لأن هذا ما حدث بالفعل.

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!