لغة الصمت / بقلم :جاغ سورايا / ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

يلتقي رجلان عجوزان صديقان من عدة سنوات خلت في منزل أحدهما الآخر ويجلسان مع بعضهما لساعتين في صمت مطبق. ثم ينهض الزائر ويغادر من دون وداع.

ثم يحدث مالا يمكن تجنبه ضمن مسيرة الحياة الطبيعية يموت أحدهما. يقول أحد المعزين للرجل الذي بقي على قيد الحياة : ” لابد أنك ستفتقده كثيرا .” أجابه الصديق الحزين : ” نعم سأفتقده كثيرا  . وسأفتقد بشكل خاص أحاديثنا الطويلة التي كنا نستمتع بها معا . ”

وتشير القصة إلى أن هناك أشكالا من التواصل التي لا تحتاج إلى استخدام الكلمات. و أكثر من ذلك ، فإنها تنقل رسالة مناسبة من دون كلمات  مفادها أن الصمت له مفرداته الخاصة الرقيقة الرنين ، ليتنا نستطيع أن نتعلم تلك اللغة .

الصمت ليس غياب الصوت . إنه وجود المعنى. عندما تعرّف سوامي فيفيكاناندا خلال زيارته للعالم الغربي على الممثلة ، سارة برنهارت ، المعروفة بجمالها وضحكتها المغرية ، سأله شخص فيما إذا كان قد سمع ضحكة الممثلة الشهيرة. أجابه فيفيكاناندا قائلا :” كلا لم اسمع ضحكتها .  لكنها سمعت صمتي”. ويقال أن برنهارت تأثرت تأثرا عميقا باجتماعها بالحكيم الشرقي .

إن تعلم الإصغاء للصمت يعلم الإنسان الصبر. فالمؤلف الموسيقي الذي يهنئه الناس على الطريقة الأنيقة التي رتب فيها العلامات والنوط الموسيقية في مؤلفاته يقول :   ” النوط الموسيقية تعتني بنفسها لكن الصعوبات تكمن في وضع العلامات الموسيقية الصامتة في مكانها الصحيح .”

في عصر الثرثرة الإلكترونية المتزايدة – التلفزيون قياس  24 × 7 والهواتف المحمولة و تويتر والرسائل القصيرة – وصار ” وضع العلامات الموسيقية الصامتة في مكانها الصحيح ” أكثر صعوبة  من ذي قبل  و لهذا السبب ، صار أكثر ضرورة.

 

 

نحن لسنا مضطرين للذهاب جبال الهيمالايا لنصبح نساكا هناك نسعى للعزلة  وسط النفايات الصحراوية ، لإيجاد الصمت.  في الواقع ، إن الخدعة هي في العثور على الصمت في خضم حياتنا اليومية وحياتنا العملية  داخل حواراتنا اليومية مع بعضنا البعض.

هل هذه الوظيفة في العثور على الصمت هي مجرد طريقة للقول بأنك تدير الأذن الصماء لما يقوله الآخرون لك ؟  على العكس تماما . إن المعنى الحقيقي للغة الصمت لا يكمن في الإقصاء بل في الاندماج وليس في عزل الإنسان نفسه بعيدا عن الناس أو عن العالم الذي حولنا ، ولكنه العثور على مستوى تخاطب مختلف وأكثر  عمقا .

من الناحية القانونية ، الصمت يعني الموافقة. على سبيل المثال ، إذا رأيت شخصا ما على وشك ارتكاب فعل إجرامي ولم تحذر الضحية أو تثير إنذارا ، يمكن للمحكمة القانونية أن تعتبر معنى صمتك  أنك أعطيت موافقتك على الفعل ، وبهذا تكون شريكا في ذلك . وهذا تفسير سلبي لطبيعة الصمت التي تعني الموافقة .
والتفسير الإيجابي للصمت هو أنه يؤكد وحدة الوعي بأنها مختلفة عن الازدواجية. سأل طالب سيده الروحي : “كيف يمكنني أن أتفوق على الجميع ؟ ” لم يجبه السيد. كل يوم كان الطالب يسأل نفس السؤال ، وفي كل يوم كان السيد يحافظ على صمته.

شعر الطالب بسخط شديد فسأل سيده سؤالا أخيرا وقال : ” ما هي المشكلة  ؟ لماذا لا تجيب على سؤالي الذي كنت أسأله كل يوم ؟ “قال السيد :” لقد أجبت على سؤالك كل يوم. لكنك تتحدث كثيرا لدرجة أنك لا تسمع ردي .”

وقد فهم الطالب أن رد سيده على سؤاله كان الصمت. و الصمت بنى جسرا فوق هوة الازدواجية الناجمة عن استخدام كلمتين هما : ” أنا”  و” الجميع” . و من خلال السعي لأن نتحد مع الكون ، كانت كلمة “أنا” تفصل نفسها عن الاتحاد الصامت الذي كان موجودا بالفعل ، والتي لا يمكن أن تتحقق إلا عندما تستسلم كلمتا “أنا” و “الجميع” لقوة الصمت.

وقال فيتجنشتاين : “حيث لا يمكن للمرء أن يتكلم ، يجب أن يكون صامتا “. هذا الصمت الكامن وراء الكلمات هو ما أشار إليه الفيلسوف النمساوي والذي أعطي أسماء مختلفة على علامات مختلفة فارقة  أنشأها السادة الروحانيون  لتوجيه طلابهم. وإحدى  المرادفات للصمت التأمل وهناك مرادف آخر هو الصلاة .

لا تحتاج للذهاب إلى ناسك زاهد معتزل أو إلى كهف في البرية للتأمل . ليس عليك الذهاب إلى ضريح الأولياء الصالحين للصلاة . يمكنك أن تفعل ذلك إما في منزلك، أو مكان عملك خلال وقت الفراغ . ربما ، أفضل ما يمكن أن تفعله ، هو أن تفعل مثل الصديقين الذين ذكرتهما في القصة ، يمكنك أن تفعل ذلك أيضا من خلال  محادثة عميقة صامتة مع شخص آخر الذي هو أنت لكن باسم مختلف ، تماما عندما تكون أنت الشخص الآخر باسم آخر. وكلاهما واحد في لغة الصمت .

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!