متعة الكتابة! / بقلم :سيد مسعود ( إيران )

كأنّي بالقارئ وهو يمرّ بالعنوان فيستغربه ثم يقف عنده متأنّيا ليدقّق مزيدا، هل هو هكذا أم وقع منه خطأ في القراءة، وبعدما تحقّق من الأمر، أجده لو لم يهتف في وجهي فيقول في نفسه على الأقلّ: “متعة الكتابة؟! نحن سمعنا متعة القراءة، ولكنّ متعة الكتابة ماذا؟ وهل الكتابة التي تتشكل لُحمتُها وسَداها من الضغط والمعاناة تكون لذّةً؟”.

لكنّني أؤكد مرة أخرى وأقول “مُتعة الكتابة”، فالكتابة أيضا لو مارسها الكاتب بجديّة وشغف، تتحوّل مع الوقت إلى متعة لديه، يجد فيها لذّة عجيبة، ويحبّها إلى حدّ الجنون، قليلون بيننا أولئك الذين يجدون مُتعتهم في القراءة، بَيد أنهم كثيرون عند المقارنة بالذين يجدون لذّتهم في الكتابة!

 

ولكي يتقلّص من حجم استغراب القارئ، ويعرف أني لا أدّعي شيئا بِدعاً، ولستُ بصدد إملاء رأى شاذّ عليه، أنقل هنا بعض ما يقوله الكاتب والفيلسوف جبرا إبراهيم جبرا: “وهكذا فإنّني كلما حرمتُ من القراءة لأيّما سبب، أدركتُ كم عظيمة وملحاحة هذه المتعةُ التي سأنصرف إليها بملء جوارحي حالما يكون وقتي مُلكي أنا، فأستطيع الانغمارَ في الكتاب، وقد تغافلتُ أخيرا عن كل قلق، تناسيت كل جهد آخر تطالبني به شؤون العيش. وليس أكبر من مُتعة القراءة هذه، إلا مُتعة الكتابة. تلك المُتعة الأعظم والأعمق والأندر. فالكتابة إذا ما تخلّت عن تمنُّعها وانصاعت للقلم، هي تلك الحوريّة الرائعة، الذاهبة بالنفس في طُرقات الجنة ودَرَكات الجحيم. متعة ولا كأيّة متعة أخرى يعرفُها الجسدُ…”.

 

نعم، كيف لا تكون الكتابةُ متعةً والكاتب يمارس عملية سحرية يجعل من الكلمات صورا وأفكارا وعواطف! ويودعها التناغم والإيقاع، فيرى نفسه على هذه السطور، يلتذّ بقراءتها وإعادتها، وكذلك القارئ يطرب بقراءتها ويردّدها مرات استزادةً للمُتعة ؟!

 

كيف لا تكون الكتابةُ متعةً والكاتب عند الكتابة يخوض مغامرة روحية ومعرفية ولغوية، وهو يتقلّب بين الإنشاء والخيال، والحسّ والعقل، والوحي والنشوة؟!

 

كيف لا تكون متعةً والكاتب يحاول عن طريقها لتشكيل صوته الداخلي على الورق الأبيض، تتراءى الكلماتُ له كظباء برّيّة وهو راكبٌ على ظهر جواد من الطراز الذي وصفه المتنبي:

رِجلاهُ في الرَكضِ رِجلٌ واليَدانِ يَدٌ

وفِعلُهُ ما تُريدُ الكَفُّ والقَدَمُ

فتفر منه الظباء ولكنه يلاحقها بجواده. فيصيدها بنجاح ومهارة ودقة.

 

كيف لا تكون الكتابة متعةً وهو عند الكتابة يجلس مع الكلمات والمفردات على طاولة شطرنج تُقامر، يركض مع القِطع على الرُقعة، ثم يخرج رابحا من لُعبة محموحة.

 

كيف لا تكون الكتابةُ مُتعةً والكاتب يجد فيها حريتَه المفقودة! وقد قال عبد الله العروي “ما فائدة الكتابة إذا لم تُعطِ للكاتب حريةً أكبرَ من التي يعرفُها في حياته العادية؟”.

 

كل هذا حاصل للكاتب، فالعذابُ يتحوّل إلى عذوبة، والشقاءُ إلى شفاء، ولكن مع الوقت، إذا تدرّب وتدرّب وتدرّب واصطبر في ذلك وتعنّى، وإن هذه الصعوبة التي يجدها أحدُنا عند بداية عهده مع الكتابة، يجدها بعد ذلك بالعكس حيمنا يبتعد عنها بسبب! فيُمسي وكأنه فقد شيئا أفقده سكونَه وقرارَه. وقد قيل: “بقدر ما تتعنّى تنال ما تتمنّى”.

 

ستصبح الكتابةُ متعةً له عندما وجد الكلماتِ تنثال عليه، وقلمَه يُسارع فكرَه، يجري سهلا سَجْسَجاً، يُمطر عليه اللآلي المنثورة، وهذا ما قاله جبرا إبراهيم جبرا: “فالكتابة إذا ما تخلّت عن تمنُّعها وانصاعتْ للقلم، هي تلك الحوريّة الرائعة…”.

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!