محمد عطية محمود والتجريب في القصة القصيرة جدا

آفاق حرة 

سمير أحمد الشريف

عرفت المبدع محمد عطية  محمود ضليعا في السرد ،قصة ورواية وصاحب نفس يتميز به ، متمكنا في النقد وله به باع طويل ، غير أنني فوجئت  وقد عرفت الكاتب يدلي بدلوه في هذا الجنس الأدبي إبداعا وتجريبا ، وهو المبدع القادر بلا شك .

في هذا الجنس الأدبي ، حيث التكثيف يختزل مرارة الواقع ويتابع صحوة الضمير ويترصد عفن الخيانة ،ببساطة لغوية عميقة ومفردة تشحنها طاقات إيحائية هائلة ،تدور في فضائها حول رؤى اجتماعية  وترصد علاقة الإنسان بمحيطة من زوايا الحياة المتباينة ، وما يكابده إنسان العصر من مراوحة بين ظلام  الواقع وإشراق الحلم  .

هذه النصوص البديعة ،تعالج أزمة الإنسان المعاصر وتقتفي تغيرات المجتمع نتيجة الأزمة الإقتصادية والحروب ،وما ينتج عنها من فقروتعقيدات اجتماعية.

هذه  القصص القصيرة جدا، تمتاز بمراعاتها ظروف العصر من حيث ضيق الوقت وعامل السرعة، وتجاهد في إيصال مضمون سريع عميق وكثيف للمتلقي ، يحمل رسالة وفكرا بأقل عدد من الكلمات، وهي لذلك تحترم المتلقي وتشركه في فهم النص ومحاولة الوصول لإبعاده العميقة.

لا تختلف القصة القصيرة جدا عن القصة القصيرة الكلاسيكية العادية ، فهما تشتركان بوجود الشخصية والمكان والحدث ،  وتفترقان من حيث ضرورة وأهمية التكثيف ، شرطا لنجاح القصة القصيرة جدا ، ومن ثم الإدهاش والرمزية والمفارقة ، وقابلية قراءة القصة القصيرة جدا على أكثر من وجه ، واستخراج أكثر من معنى ، بناء على وعي وعمق وثقافة المتلقي.

لعل أول ما يلفت في بناء النصوص ، ذلك التواصل بينها جميعا ، لكأنها متتاليات تضيء مفاهيم تشكل بمجموعها وحدة موضوعية واحدة- الغربة والترحال وعدم الإستقرار-كما في نص العرافة ص9″ هي لن تفعل لك شيئا ..!! فقط.. ستخرج لك قطعة الحلوى المسْكِرَة،المثلجة، من نهر صدرها الملتهب.. ثم تلقمك إياها، وهي ترمي بنظرة عينيها

السوداوين الساحرتين.. ونص “خرس”صار طعم القهوة في لساني مرا..ارتعشت ملعقة السكر في يد العجوز الصامت المجاور لي.. مالت بحبات

سكرها الشحيحة.. اصطدمت بحافة كوب شايه الذي لا يزال فارغأ. أسرعت يدي تلتقطها؛ لتهبط بها في قاعه  تلاقت عيني، بعينيه الجافلة الممتنة، فيما عانقت عيني الأخرى عقب السيجارة، المتدحرج تحت قدمي، يلفظ شرارته الأخيرة.. وهاتفي النقال أمامي لا يغادره خرسه.

تحضر المرأة في نصوص المجموعة بوضوح لتعكس صورة الأم المكافحة الرؤم ، البعيدة عن أجواء الغجرية  والعرافة ودلالتهما ص 39،المرأة التي هي نبت القلب، حشاشته، هي أم رءوم بكل ما تعنيه الكلمة والكناية، لكنها ليست كذلك لمن.. يهاجر إليها من إشراقة شمس، ويأوي

إلى أبوابها المغلقة دوما عند الغروب، وعندما يسدل الليل ستاره على صغارعصافير، وإن كبروا ”  أما نص وحدة ص 44 فيعكس وجها آخر للمرأة التي تبذل وتضحي وتقدم ما تستطيع وتغيش نهاية عمرها وحيدة تستجدي السلام والتواصل وربما الصدقة 44.المرأة التي تجلس وحيدة في زاوية الحجرة جيدة الإضاءة والتكييف – وسط

من تزعم أنهم يحيطون بها – لا ترى رسائل الحنين التي تنقر زجاج نافذة حجرتها وسط ضجيج نفثات لفافة تبغها جيدة الصنع.!!!

يطوف السارد كلي المعرفة بالمتلقي بين فضاءات نصوصه التسعين عبر  مئة وتسع من الصفحات ليشركنا في تلمس معاناة المسحوقين ومواطني الدرجة العاشرة في عالمنا ،كما يعكسه نص ” رسالة ” ص30″  من فنجان القهوة الذي برد من طول الانتظار والتذكار.. إلى كوب الشاي

– سيطول مشوارك بلا زاد ولا ميعاد، وستنزوي مع حباتك السوداء اليابسةالدافئ بالنسيان والإنكار.”

في نصوص مجموعة ” من دفتر أحوال الغجرية ” الصادرة حديثا في طبعتها الأولى  ، 2021عن ديوان العرب للنشر والتوزيع في بورسعيد- مصر،يُظهر الكاتب جماليات إبداعية في هذا الفن السهل الممتنع الذي يحتاج أول ما يحتاج للإقتصاد اللغوي والمفارقة والسخرية وما تمل من إيحاءات ودلالات تثري عمق المعنى ، ليظل ثلاثيّ القهوة /الغجرية /القهوة محورا رئيسا يحرك فضاء المجموعة بشكل عام .

هذا وقد صدر للمبدع محمد عطية محمود سابقا مجموعات قصصية وروائية /على حافة الحلم/ وخز الأماني/ في انتظار القادم/ عيون بيضاء/ جمر اللحظة/ دوامات الغياب، وبهجة الحضور /تجليات سرد الحياة : دراسة في أدب نجيب محفوظ .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!