من قوة الثروة، قوة معنى الفن/ بقلم الشاعر اللبناني شربل داغر

لم ينطفئ بعدُ الحريق الذي اندلع في كاتدرائية “نوتردام” بباريس. عنيتُ بهذا أن أكثر من جدلٍ

انطلق إثر الحريق، منها: لماذا استثار هذا الحريق عطفاً دوليّا واسعا، ما حظيتْ به عمائر مختلفة

في العالم، ومنها عمائر إسلامية وعربية، عندما احترقت أو دُمرت أو تهاوت؟

لهذا السؤال أسئلة كثيرة تتفرع منه، أكتفي بواحد منها: أباتت لأحجار الفن مثل هذه القيمة العالية لكي تستنهض الملايين لإعادة بنائها من جديد؟

يتحدث بيار بورديو في كتابه “قواعد الفن” عن وجودَين للعمل الفنيّ: واحد “في الوقائع”، وآخر “في الرؤوس”. هذا يعني، في حسابه، أنّ قيمة الفن لا تتأتّى فقط من الإقبال عليه، من شرائه، من حفظه، وإنما تتأتّى قيمة الفن أيضا من معناه، مِما يُكتب عنه. وهو معنى كتابيّ لا يقلّ قيمة عن المعنى الماليّ، عدا أنه ينمّيه ويعزّزه.

فالمقتني أو شاري اللوحة لا يشتري لوحة أو عملاً فنيّا مثلما يشتري قطعة ألماس أو حجراً نادرا، وإنما يشتري مصنوعا يمكن أن يصير نفيساً ونادراً، هو الآخر، ومنتظماً في تاريخ الفن والحضارات.

ميّز فيكتور هيغو (وهو كاتبُ الرائعة الروائية “نوتردام باريس”) في العام 1832 بين ملكية المالك لِما يملك من مبانٍ أو أعمال، وبين قيمة معناها الفنيّ الذي يعود إلى الجمهور: “في أيّ مبنًى (فنيّ)، هناك شيئان: (جانبه) الاستعماليّ و (جانبه) الجماليّ. (فالجانب الأول منه) الاستعماليّ متروك لمالكه، فيما (يعود جانبه الثاني) الجماليّ إلى جميع الناس”. بات الجمهور مالكا بالضرورة، وبات الفن شأنا عموميّا، وإن امتلكَه أفراد معدودون.

صياغة المعنى هي ما جعلَ الفنّ ملكية عمومية، ملكية حضارية كذلك: هذا ما يفعله العربيّ أو المسلم إذ يقع على روائع الفن الإسلاميّ، فيتباهى ويشعر بنفسه معنيّا مباشرة بما يراه في مقتنيات “المتحف البريطانيّ” أو “الإرميتاج” أو “اللوفر” وغيرها.

مقتنون عرب متعاظمون، ولا سيما من بلدان الخليج العربيّ، يشاركون في هذه العملية العالمية المتمادية.

هذا يصحُّ في اقتناء أعمال الفن، وفي بناء المتاحف وصالات العرض، وفي انتظام المزادات العلنية وغيرها. إلا أنه لا يصحُّ إلا قليلاً في بناء المعنى الفنيّ: المؤسّسات، والسياسات، والمبادرات التي تُعنى يإنتاج معنى الفن قليلة في عالمنا العربيّ عموما.

جملة من الأسئلة تكفي: لولا مبادرة أعداد من الكُتّاب العرب بإصدار كتب عن الفنّ الإسلاميّ، أو عن الفن العربيّ الحديث، لًما وجدنا الكثير من الإنتاجات في بلادنا. بل نسأل: ما السياسات التي تُعنى برَسملة معنى هذه الفنون التي تتوطّن وتزدهر في بلادنا؟ من يعود إلى الإصدارات المختلفة سيجد أيضا أن الإصدارات الغربية المعنيّة بالفن الإسلاميّ وبالفن العربيّ الحديث تفوق كثيرا ما تنتجه سياسات التأليف المحلية. سأكتفي بطرح أسئلة فقط: أين هي موسوعات الفن في بلادنا؟ أتوجد موسوعة واحدة، بجهد عربيّ، حول الفن الإسلاميّ، أو حول الفن العربيّ الحديث، أو حول هذه المدرسة الفنية أو تلك، أو حول الفن في هذا البلد العربيّ أو ذاك؟ يمكنني أن أزيد من الأسئلة التي تُظهر الفقر المدقع في هذا المجال. أيتمُّ – في الحكومات والسياسات والبرامج والمبادرات – تشجيع قيام مثل هذه المشروعات؟ أيتمُّ تخصيص طلاب في مثل هذه الاختصاصات؟ ألا نكون جديرين بصياغة معنى فنوننا مثل غيرنا، بل أفضل منهم؟ الأسئلة كثيرة، إلا أن قيام الكثير من مشروعات المعنى يكاد يساوي وحده قيمة شراء لوحة واحدة. تحدثتُ في كتابي “الفن والشرق” عمّا أسميته: “وكالة معنى”، وطلبتُ منه الحديث عن السياسات والمجهودات التي تعنى ببناء “معنى” الفن. هذا ما أثيره في جملة أسئلة: كم تصرف هذه الحكومة العربية أو تلك، هذه الجامعة أو تلك، هذه الجهة الثقافية أو تلك، على كتب الفن، من جهة ترجمته أو نشره أو وضع كتب فيه؟ أيكون الإقبال على شراء أعمال الفن في بلادنا إقبالَ المستثمِر في البورصة أو شاري السيارات الفاخرة؟

فالدولة، والمتحف، والمجموعات، تحتاج إلى المعنى لرفع قيمة المقتنيات. وهذا ما يشمل الحاجة إلى توثيق الفن، وكتابة تاريخه، ونقده، ودرسٍ خطابه الفنيّ والفلسفيّ وغيرها من أنواع المعنى الفنيّ.

 

 

 

(افتتاحية المجلة الشهرية: “البحرين الثقافية”، المنامة، العدد 97، تموز-يوليو، 2019).

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!