هنا في المخيم بقلم. د. سلطان الخضور

لصحيفة آفاق حرة

 

هنا في المخيم

بقلم. د. سلطان الخضور

 

هنا في المخيم …تقف الكلمات عن الوصف عاجزات… حتى الصورة لا تجد لحظة فرح تلتقطها لتسجلها في أبجديات الطمأنينة وراحة النفس. كل شيء هنا ممكن. وكل شيء هنا مختلف، وهنا شيء من المستحيل.
أحلام النوم واليقظة والرؤى تتلحف بالحاجة وتتدثر بالأمل والعزم والتصميم.

هنا… تتلمس أقسى لحظات الجوع، وهنا… تتواجد أشد اللحظات أيلاماً وقسوة، وهنا تبسط القسوة أجنحتها وتجر معها الجوع والألم والقهر … وهنا عزم وتصميم وقطرات من السعادة، تتعايش مع لحظات من الأمل، كل الناس في قلوبهم ألم البعد والهجران وأمل العودة إلى الديار .

وهنا تفترش الحاجة كل جنبات ما تسمى زوراً بيوتاً وحارات، وكلها تجعل من التحدي أملاً في العودة، وكلها تحط رحالها بين جنبات المخيم لتنصب علب الفقر وخيام الجوع الممزوجة بالأمل …لتكون ملجأً لكلِّ ذي عوز، ولكل من تحسبهم أغنياء من التعفف.

هنا كثير من الممكن…وقليل من المستحيل، قد تمر هنا بطفل غض، نحيف الساقين رقيق القدمين، يرمقك بنظرات حادة، يقول ألف جملة دون أن يقول، ويسأل ألف سؤال دون أن يحرك شفتيه، لكنه يشب متأبطاً حلماً عاش معه سنوات وسنوات… وفي النهاية يتحقق الحلم فيخرج من حيرته شاعرُ أو ناثر أو مهندس أو معلم أو طبيب أو مهني محترف، لم يقبل إلا أن يطبع الزمان على وجنتيه قُبَلَ التّميز والرّقي والارتقاء.

هنا عجوز تجلس أمام بيتها، علَّ أحداً يحادثها لانها ملت رطوبة المنزل، فخرجت تنظر شمس النهار لتجلب الدفء إلى بدنها المرتجف من لسعات البرد، عجوز في الثمانين أو التسعين من عمرها، تنظر إلى الشمس فتأخذ منها دفئاً وسبيلاً للبقاء في سجلات من سيعودون إلى الزيتون والتين والليمون، وتنسج من ظلمات الليل حلماً في العودة لرغيف خبز تركته يئن في الطابون.

وهنا …في المخيم جدٌ يوصي أبناءه وأحفادة أن يدفن في حوش الدار عند الممات وهو يعلم ان الحوش ما زال يصرخ تحت ظلم وظلام الاحتلال.
هنا …وهنا فقط أطول ساعات انتظار سجلها التاريخ …تاريخ النكبات والنكسات والهزائم والتشريد وانتصار على القهر، هنا انتظار في عمر الزهور، وانتظار شاخ وهو يبحث عن الوصول. …هنا… وهنا فقط ..يؤمن الشيخ والعجوز والابن والبنت والأحفاد أن ساعة العودة لا بد أن تدق، وأن أجراس العودة حتماً ستقرع.

في المخيم …من الأطفال من يخرج من المدارس ليركض خلف الرغيف ليأتي ببضعٍ من لقم العيش، وهنا فقط من الفقراء من يتمنى لإبنه الرسوب حتى يساعدة على توفير الرغيف. هنا يدخل الأب ابنه في دوّامة جديدة من دوامات العوز، وهنا أيضاً من داسوا العوز بعلمهم وسعوا فنجحوا وأنجزوا وصاروا أطباء ومهندسين ومعلمين ومحامين.
ولأن الفقر والعوز والمعاناة حاضنة رئيسة من حواضن الأدب نبت في المخيم رجال أمسكوا بناصية الأدب وصاروا قادة، منهم من فقد روحه ثمناً لكلمة الحق ومضى شهيداً وهو سعيد، ومنهم من يضرب به المثل في الانتماء والعطاء.
…وفي المخيم قدمان حافيتان وملابس صيفية في عز الشتاء، وارتجاف مستمر للشفتين ودفء مفقود، وبؤس وفقر وجوع منضوض، جوع يسهم في صقل جسد ممزوج.

وفي المخيم أناس يزرعون الأمل ويقلمون أشجار الرجوع، لترتفع من جديد شامخة شاهقة صابرة.

هنا في المخيم بناء مدرسي، يتشارك فيه من الطلاب على فترتين ما ينوف عن الألفين … ومثلهم كان نصيب بنات آدم من الطالبات.
وفي المخيم من الممكن أن يذهب الطالب إلى المدرسة ولم يكن أحد قد تفقد له واجباته أو راجع له دروسه، أو حتى نبهه ليغسل وجهه في الصباح، لا لشيء إلا لأن الأب منهك والأم توزع وقتها ما بين الواجبات البيتية والعمل في كثير من الأحيان لكنهم أطفال تعلموا كيف ينقلوا خارطة فلسطين من خيالهم ليرسموها على الجدران، واسم فلسطين على كراساتهم يكتبون، وفي قلوبهم أسماء مدنهم وقراهم يحفظون.

وهنا …المسافة بين الجار والجار متر، نعم متر واحد فقط إن لم يتم قضم بعضاً من مساحته بقصد التوسع، وهنا في معظم الاحيان لا يرتبط الجار بجاره برابطة القربى، هذا من نابلس وذاك من الخليل والثالث من الجليل والرابع من جنين والخامس من طوباس والسادس من بيسان والسابع من عسقلان، لكنهم جميعاً يرتبطون برباط مقدس إسمه فلسطين، نعم يجتمعون على الوطن ويتفرقون على نسب الفاقة والعوز.
هنا …وهنا فقط يضيق الشارع كضيق العيش فيصير متعدد الأغراض، يصير للسيارة وللمرور وملعبا للأطفال وملجأ ليلياً لسهرات الشباب.

هنا يعاني الناس أكثر من غيرهم من قلة الوظائف، فهناك من الوظائف ما هو بعيد المنال. هنا الناس في معظمهم مهنيون أو عاطلون وقليل منهم موظفون.

هنا يتزاحم بما معدله خمس وثلاثون الفاً من أبناء آدم وبناته على عيادة واحدة، غالباً ما تكون وصفات علاجهم حبات من”الأسبرين”.

هنا التعدد في الرأي والفكر وهنا تعدد الثقافات وتعدد الولاءات، فهنا العروبي القومي والوطني والفصائلي والشيوعي، وهنا من كفر باليابسة من محيطها إلى خليجها وصار همُّه أن يعيش وأبناؤه بأمن وسلام. هنا…يتفرق الناس في الرأي والفكر ويجتمون على الانتماء للأردن وطناً وقيادة، وولاءً وعطاء.

هنا، في المخيم، ينتخب الناس على أسس بعيداً عن العشائرية ولا ينظر غالبهم إلى الأصل والمنبت والفصل، فمعظم المرشحين إن لم يكونوا كلهم يأخذون حصصهم من الأصوات ويمضون.

هنا فقط يعيش الناس عيشة ضنكا، ويسبحون باسم ربهم ويحمدون، وهنا فقط يعرف الناس أن لا قيمة لكنز الأموال، فينشطون لجلب قوت يومهم ويشكرون ولا يشكون.

هنا، يعرف الناس كما غيرهم قيمة المواطنة فلا يشتمون ولا يلعنون، هنا أناس صابرون وللفرج منتظرون.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!