أعمال نهاية الأسبوع التي لا أستطيع الاعتياد عليها

نسرين محمد( السودان

أعمال نهاية الأسبوع التي لا أستطيع الاعتياد عليها: الطهي ، تنظيف المنزل، ترتيب المكتبة، بعض الأعمال التي يجب أن تسلَّم بداية الأسبوع، غسل الصحون تظلُّ أصعب المهام.
لطالما كنت أبغض غسل الأواني؛ على الرُّغم من أنَّ مشوار حياتي بدأ أمام طشت “العِدَّة”.
يقال – دائمًا – إنَّ المرأة التي تجيد غسل الأطباق وتلميع ما يحتاج منها إلى تلميع هي المرأة الناجحة. كانت أمي متفردة، تحرص على أن يكون كل شيءٍ مميَّزًا، لكنَّها فشلت في أن أكون نسخةً منها. كنت كثيرًا ما أترك – لها – آنية خلف منشفة الأواني. وكلما كنت أنال عقابي على ذلك؛ يزداد كرهي للأطباق وماشابهها.
في الوقت الذي كانت فتيات القرية يجتهدن في جمع أكبر عدد منها حتى يملأن غرفهن بها بعد الزواج، كنت أحاول حفظ جداول الضرب.
ابتعدت الخطوات لدرجة غير متوقعة.
ها أنا الآن – وبعد مضي خمسة وثلاثين عامًا – أجمع وأطرح؛ والنظر غائب في دهاليزَ من وادي النعاس إلى وادٍ مليءٍ بالذكريات السيئة والمبهجة. وسط هذه الفوضى اتحد الصباح بالأغنية؛ أغنية تعنيني بكل تفاصيلها رقصنا عليها كثيرًا.
تغنينا بها وبكينا؛ في الطريق العودة من الجامعة إلى السكن.
كانت الطريق شاقًّا جدًّا، لكن ضحكة كضحكة بخيتة كانت تخبئُ الكثير مما كنت أجهل قبل أن أقتحم عوالمها.

عندما قادتني خطواتي إلى السكن مجبرةً لإكمال ما بدأته، إذ إنَّه لا يمكن التوقُّف بعد أن بدأت رحلة التعليم؛ كان لابدَّ من الاستمرار حتى وإن كان الطريق مجهولًا.
التقيت بها، كغيرها من العاملات في ذلك المسرح الكبير، سميته بذلك لأنني في كل صباح تتجسَّد فيه مشاهدُ مختلفة وعوالمُ متفردة، بخيتة تلك المرأة الخلاسية، ذات القوام الممشوق والجبين المقطب على الدوام.
لسان يجيد الإنجليزية أكثر من إجادته العربية.
كانت من ضمن النسوة اللائي فقدن أزواجهنَّ في التمرد التي حدث في ذلك العام
صرن والدًا ووالدة؛ بين ليلة وضحاها.
منهنَّ أراملُ وغيرهنَّ لا يدرين ما حلَّ بأزواجهنَّ حتى ذلك التاريخ.
كان عليهن – فقط – السعي من أجل أبنائهنَّ.
كنت أجيد كل الطُرق التي تقودني للتوغُّل إلى عوالمَ تجمعني بهن التي تبدأ بالتحية وتنتهي كوب شاي وكثيرًا من الحكاوي والقهقات
إنَّها السيدة التي تطهو للسكن كله.
عندي عودتي، كنت أنادي باسمها من على البوابة:
” بخيتة الغداء شنو؟”.
تجيب، وهي غارقة في الضحك، عن سؤالي:
” زي كل يوم عدس و أسود و… “.
أقاطعها..
لطالما كنت أعرف ما تبقى من الإجابة:
” خلاص خلي لي النار عندي باقي بُن بجي أعمل كباية قهوة”.
تدرك أنَّني لم أكن أملك ثمن الوجبة لذلك لطالما كانت تردَّد كثيرًا:
” منتظرنك يا القصيرة لسة ما اتغدَّينا “.
بين البوابة والغرف عدة خطوات كانت تمضي بين التحية وردها.
ثم أعود إليها مجدَّدًا، وتبدأ الحكاية مرة أخرى.
كنت، في كل مرة أتحدَّث معها، أتساءل كيف تصبح فتاةٌ في التاسعة عشر أمًّا لخمسة أطفال؛ بلا عون؟.
ما جدوى السؤال؟ ليست وحدها؛ هناك غيرها كثيرات.
لو أنَّ بخيتة لم تكن زوجة وأمًّا لكانت مغنية جيدة ومتفردة.
لكنَّ بعض الحكايات تظلُّ مبتورة، وكم منها ما سقط من المخيلة سهوًا.

عندما كنَّا صغارًا، كان الأمر سهلًا والقصص لا تعدو سوى ضحكات وشتائم عادية، كُنَّا نصطاد ما استطعنا من السمك والطيور.
لم تكن الوليمة تحتاج إلى شيءٍ سوى عود من الكبريت.
كبرنا وصارت الأعواد تشتعل في الداخل على لحن قديم، تتقاذفنا الأيام على هواها.

تلك الأغنية نبشت ما دفن قبل أعوام. كنت منفكئة على عوالم اجتهدت لتكون حقيقتي، لكن للذاكرة أمر آخر.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!