البصقة التائهة خاطرة بقلم/نجيب كيَّالي

لصحيفة آفاق حرة:

________________

البصقة التائهة
خاطرة

بقلم/نجيب كيَّالي

يقول واحدٌ من هذا الزمان: أنا غاضبٌ جداً، ولم أعد أحتمل! في فمي بصقة، أنوي قذفَها على شيءٍ ما أو أحدٍ ما.
هل أبصقُ على الغيمة التي مازالت تمطر، فتسقينا نحن البشرَ القساة، وتعطينا من الماء والخير مالا نستحقه؟
هل أبصقُ على وجه المذيعة التي تبتسمُ في إحدى الفضائيات العربية؟ ثم تتحدث بحيادية عن أخبار الموت والجوع والانتهاك في أوطاننا، كما تتحدث عن ارتفاع وهبوط أسعار الدولار!
هل أبصقُ على الريح التي لا تخجل من اقتلاع خيمة يقبع تحتها أطفالٌ سوريون في الشتاء؟ تقذف الريح الخيمة بعيداً، تتركهم يرتجفون في البرد كما ارتجفوا يوم قُتِلَ أبوهم في القصف، وذُبحتْ أمهم أمام أعينهم بعد أن اغتصبها أحد الجنود!
هل أبصقُ على نهر السيارات التي يتدفق في الشارع؟ يركبها أناس بينهم مسافاتٌ قصيرة، لكنَّ قلوبَهم متباعدة، كأنهم لا ينتمون إلى بلد واحد! يمرون قربَ المآسي، فلا ينظرون إليها! يمرون قربَ شقة تحترق، فلا يأبهون! يهمهم العبور.. مجرد العبور!
هل أبصقُ على صاحب العمامة الذي ترك كتابَ الله، وراح يحفظ أقوالَ القيصر، ويبارك له كلما قتل معارضاً، وجدَّد لنفسه حقَّ البقاءِ في منصبه؟
هل أبصقُ على عصر العولمة؟ الذي سلَّمَ مصيرَ سبعة مليارات من البشر هم سكانُ أرضنا المسكينة للشركات المتعددةِ الجنسيات التي تتفنن في تجريد الناس من إراداتهم، وتقوم بتصنيع الفيروسات والأمراض لتخفيف أعدادهم على الأرض من انفلونزا الطيور إلى جنون البقر إلى كورونا، والقادم أعظم!
هل أبصقُ على الخلية الأولى التي تكوَّنتْ في الماء؟ ثم تطورت منها الكائنات، وتطورت الفظائع، ففسدت عطور الأزهار، وتشوَّه تغريد البلابل، وبنى الحزنُ مملكته الكبرى في صدورنا، فنحن الجُناةُ، ونحن الضحية!
هل أبصقُ على يوم مولدي؟ فقد أُرغمتُ على المجيء إلى مكان اسمه: الدنيا، لم يستشرني أحد، ولم يأبه أحد بقلبي الذي يتدحرج على الأرض كلَّ يوم!
هل أبصقُ على مَنْ أعطوني اسماً لا أريده؟
طريقاً محدداً لأسير فيه، كأنني ريبوت!
شهادةً تافهة لأمارس من خلالها وظيفةً أجرها أقلُّ من دخل متسوِّل!
هل أبصقُ على يدي التي لم تطلق النار على رأسي؟
على نسمة الهواء التي مازالت تدخل رئتي؟
هل أبصقُ على قلبي الذي أحبَّ امرأةً، فتزوجنا، وأنجبنا أطفالاً، مصيرهم ترسمه الريح، وسادةٌ حمقى، يضعون الوطنَ كلَّهُ في جيوبهم!
بصقتي تكبر.. تتضخم.. تصبح بحجم جراحي الهائلة، ولا أعرف لمن أوجهها بالضبط!
*

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!