عبق الرسائل. بقلم. فايزة رشدان

لصحيفة آفاق حرة

عبق الرسائل

 

بقلم. الأدبية فايزة رشدان

 

زمان.. حين كانت الهيبة للقلم والورق.. كان الناس يجلسون ساعات طويلة يُدبجون الرسائل، ويملؤونها بلهيب عواطفهم وأشواقهم،.. ثم تُطوى الرسالة. وربما يدس بين أوراقها صورة مولود جديدٍ لم يره المسافر..
وينهمك فتى أو فتاة بكتابة العنوان على المغلف بكلّ رويّة ثم يُبلّل من ريقه طابعا أو طابعين ويدقهما دقا شديدا بباطن كفه على المغلف.. هذه الرسائل حين كان لها معنى حميم وعائلي، ومناسبة لأن تلتمّ العائلة كلها حول من وقع عليه الاختيار ليقرأ رسالة الأخ المغترب في الخليج، والذي تقاطعه الأم أكثر من مرة ليعيد مقطعا لم تسمعه جيدا أو أحبّته، ورغبت أن تسمعه ثانية..
تغير الزمن، لم يعد للحب رائحة الورق والحبر الممزوج بدموع الشوق بل صارت له نكهة من وجع حيث نشاهد المشاعر، ولا نلمسها
برسائل تختصر مشاعرنا وعواطفنا، وتكثفها في كلمات تصل عبر ضغطة واحدة على زر الإرسال، ولا تستغرق سوى ثواني قليلة للوصول إلى المرسل إليه.
هذه الرسائل القصيرة جعلتنا ننسى مثل اشياء كثيرة اخرى نسيناها – رسائلنا المطولات التي كنا نكتبها في سنوات مراهقتن،  وشبابنا لمن نحب وللاهل والاصدقاء.. واقترنت تلك الرسائل بموزعها على من نحب، وهو ساعي البريد.. وقليل منا من يتذكر تلك الدراجة التي يقودها وبحقيبته التي يحملها على ظهره.. ساعي البريد الذي كان يدور في الشوارع و الحارات يوزع الفرح، ويبدّد لوعات الانتظار في عيون الكثيرين… مازال خياله ماثلاً أمامي، وهو يجول في الشوارع والأزقة، و الحارات باحثاً عن أم ٍ أو حبيب أوحبيبه يطمأنهم عن غيابهم..
الآن كفّت يده عن طرق أبوابنا، وعن جلب الفرحة لنا، وعن تبديد هواجس انتظارنا، وبقيت صورته وما حمله إلينا يوما ما في زوايا الذاكرة التي تشيخ باستمرار، وتشيخ معها أعمارنا
افتقدنا حميمية الرسائل ولهفة التلقي.. ماتت رسائل ساعي البريد
وضاعت الطوابع والأختام والشوق والأحلام ورومانسية الانتظار
مشتاقين – ترجعون بالسلامة – بانتظاركم – مساء الخير – الف مبروك – ياليتني الان معك وكل لحظة اشوفك
للأسف ضاعت تلك الرسائل التي كنا نكتبها بيدنا المرتجفة وعلى أوراق بيضاء أو ملونة.. أصبحت الآن قصيرة وسريعة. واختفت معها بصمات الأرواح، وما يترك كاتبها عليها من أنفاس، وربما دموع .
سلامٌ على وَرق عانق رائحة محبوبٍ حبرًا وعطرًا.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!