عصفور وكلمات صباحيَّة الشيخ مَرجان

لصحيفة آفاق حرة

 

عصفور وكلمات صباحيَّة
الشيخ مَرجان
خاطرة
بقلم. نجيب كيَّالي. سوريا

هل يستطيع عجوز أن يهزمَ المرض؟
هل يستطيع أن يضربَ الموتَ بعكازه، فيجبرَهُ على الابتعاد عنه؟
هل في مقدوره أن يبدأ كلَّ يوم بدايةً جديدة مملوءةً بالبشاشة كالفتيان وعصافيرِ الشجر؟
كنتُ أظنُّ أن كلَّ ذلك غير ممكن، لكنَّ نظرتي بدأت تتغيَّر بعد أن صرتُ أتردد زائراً على بيت جارنا نوح أبي عزيز.
كان جارنا أبو عزيز في الرابعة والثمانين، تزوَّجَ خمسَ نساء غيرَ المعشوقات، نساؤه بعضُهن طلقهن، وبعضُهن اختفين لأسباب مجهولة، وآخرهن ماتت منذ أربع سنوات! لكنه مازال يحب الجميع، ويذكر محاسنَ كل واحدةٍ بدقة.
يعيش وحيداً أو شبه وحيد معظمَ يومه مع عصفوره: الشيخ مَرجان، ولا أدري لماذا سمَّاه كذلك! هل لأنَّ له تحت منقاره ريشةً نازلة إلى الأسفل تشبه اللحية؟ ربما.
المهم.. أنا أعمل سائقَ تكسي سرفيس، وأركنُ السيارة بين وقت وآخر لأقوم بزيارته، وما إنْ أدخل عليه وأهُمُّ بسؤاله عن أحواله حتى يبادرني قائلاً:
– لا.. لا. تبدو كئيباً يا غسان! هذا لا يجوز. الزبائن سيهربون من سيارتك. الابتسامة يا صديقي لا تحتاج لبنزين أو كهرباء، إنها تعمل بالطاقة الربانية. خذ هذه النكتة روِّقْ مزاجك بها.
ويروح- بعد النكتة- يُحدِّثني عن صحن المامونية الذي صنعَهُ صباحاً بنفسه، ودعا الشيخ مرجان لينال نصيبَهُ منه، ثم يضيف: اسأل مَرجان كيف كانت مامونيتي؟
الطريف أن عصفوره الشيخ مَرجان ما هو إلا عصفور بلاستيكي مغطَّى بطبقة من الريش الملوَّن، ويعمل بالبطارية، وبين حين وآخر يطلق زقزقاتِهِ الحلوة، لكنه بالنسبة إليه كائنٌ حيّ قريبٌ من الروح، شديدُ الرهافة!
بالأمس روى لي حكايةً عن نفسه من حكاياته التي لا تنتهي، وهو بارع في القص والوصف، تنسجمُ حتى الحيطانُ معه حينما يحكي. قال:
– محسوبك أبو عزيز كان دركياً خيَّالاً، ثم رئيسَ مخفر لمدة خمسٍ وعشرين سنة، تنقَّلتُ في أماكنَ كثيرة من بلدنا سوريا، وفي بلدة جسر الشغور بقيتُ خمس سنوات.
كان يحكي، وينظر نحو الشيخ مَرجان، وكأنه يريد منه أن يفهمَ تاريخه هو الآخر، فيعاملَهُ بالاحترام اللائق أو يزيدَ زقزقاتِهِ عذوبةً من أجله. أكمل قائلاً:
– كان هناك في بازار الجسر مجموعةُ لصوص يسرقون ما تطاله أيديهم من البضائع المعروضة، ويأوون لمغارة، ولم يتمكن كل الدرك السابقين من القبض عليهم أو مجردِ الاقتراب من مغارتهم! لكنَّ عمَّك أبا عزيز فعَلَها، داهمتُهم مع مفرزة، وحين صاروا عندي في النظَّارة أخذتُ منهم ما سرقوه، وحلقتُ لكل منهم طرفاً من شاربه، بعد أن لعبت خيزرانتي في جُنوبهم، وقلتُ: في المرة القادمة أمامكم المحكمة، وحقِّ خالق الخَلْق، أو سأرسلكم مباشرةً إلى سجن حلب. هل تُصدِّق أنهم صاروا يأتون في يوم البازار ليجلسوا عندي على الرصيف أمام المخفر قائلين: ها نحن أمامك يا أبا عزيز، فإذا وقعت سرقة في البازار لا سمح الله، فاعلم أن غيرنا مَنْ فعلها، ونحن أبرياء.
ضحك أبو عزيز بفخر، وغنَّى هذا الموال:
نحنا الرجاجيلْ نكسر ضهر جبالْ يا عمّْ/ نور المراجل ع الدني وطرافها عمّْ
عن أولاده كان يقول: عندي ابنة وصبيَّان. إنهم موظفون ولديهم مسؤوليات، ويمرون عليَّ كل يوم تقريباً، وكثيراً ما يدعونني للذهاب إلى بيوتهم، لكنَّ أبا عزيز يُفضِّل البقاءَ في بيته، ومَنْ أراد فليزره هنا.
تعلَّقَ قلبي بهذا العجوز كما تتعلق نحلةٌ بزهرة، وصرتُ أحفظ أقواله، وأرددها، منها:
* لو كان الأمر بيدي لفرضتُ على كل وجه عابس غرامة، لأنه يؤذي الناظرين إليه.
* جحا عندي أهم من كل أصحاب المواعظ التي تكشش البدن.
* شمس الشموسة تطلُّ علينا في أول اليوم ببسمة من نور، فلماذا لا نعمل مثلَها؟!
وعندما يركب معي شخص عابس في السيارة أقول له: ابتسم، عيب سيزعل منك أبو عزيز، فيسألني: من هو أبو عزيز؟ فأحكي له عنه.
مرضَ جارنا هذا، وشَحُبَ لونه في أحد الأيام، فرفض ما اقترحه عليه أولاده من زيارة الطبيب قائلاً:
– أنا راكبُ الخيل، ومؤدِّبُ الحرامية أستلقي أمام طبيب ليعطيني حقنة! لا..لا. مستحيل.
رفض أيضاً أن يأتوه بطبيب خاص إلى البيت!
رفض حتى أن يقول أحد عنه: إنه مريض!
وذاتَ ظهيرة وهو في مرضه جئتُ للاطمئنان عليه، طرقتُ الباب، فلم يجبني أحد! خفتُ أن يكون أصابه مكروه، دخلتُ من باب الدار حيث اعتاد أن يترك لسانَ القفل مسحوباً إلى الوراء بخيط من النايلون. حين وصلتُ إلى غرفته وأنا أمشي بهدوء مترددَ الخطا فاجأني أمرٌ غريبٌ للغاية.. لمحتُه من نافذة غرفته ممسكاً بالشيخ مرجان وأمامهما علبة دواء، وهو يوصيه:
– عصفوري الغالي، اضطررتُ اليوم أن أذهب سراً إلى الطبيب، ولا يعلم بهذا الأمر أحدٌ سواك. إياك أن تفتح فمك بكلمة، والله إذا فعلتَ فأنا سأنتف ريشك.. ريشةً.. ريشة.
تراجعتُ مبتسماً، وما لبث أبو عزيز أن شفي، وعاد إلى حكاياته ومواويله، ودخل سنة ٢٠٢٢ وعمره قارب المئة! أما الشيخ مرجان فكلما رأيتُ عصفوراً ملوَّناً يطير ظننتُ أنه هو، أصبح من لحم ودم يتنقَّل ليروي أخبارَ أبي عزيز للدنيا كلها!
*

٢٠٢٢/١٢/٢٦

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!