على ظهر الجبل. خاطرة. نجيب كيَّالي

  1. على ظهر الجبل
    خاطرة
    نجيب كيَّالي. سوريا

لصحيفة آفاق حرة

 

صعد شكيب إلى ظهر الجبل، وأطلقَ آهةً في الأعلى، فأطلقَ الجبلُ آهةً من بين شجيراته!
كان شكيب أديباً مرهفاً، فقال: أعرفُ أنك تتأوَّه من طول السنين أيها الجبلُ العظيم، عن مشاعرك حدَّثنا ابنُ خفاجة في قصيدته البائية:
(وأرعنَ طمَّاحِ الذؤابةِ باذخٍ
يطاولُ أعنانَ السماءِ بغاربِ)
دلَّكَ شكيب للجبل رقبتَهُ الدائمةَ الانتصاب، ودلَّكَ له أيضاً ما بين كتفيه، فشعرَ الجبل بالارتياح، قال الجبل:
– هه. أنا أتأوَّهُ من طول العمر، ولكنْ ما سببُ تأوهك أنتَ أيها الشاب؟!
– تأوهاتي يا صديقي الجبل سببُها انحطاط الآداب والفنون في بلدي، وهما الرئةُ التي أتنفس من خلالها، وهكذا.. فأنا- بعد عطبهما- محتاجٌ لدفقاتٍ من الأوكسجين النقي، ولذا صعدتُ إليك.
تمتم الجبل:
– أعانك الله. كلُّ نسماتي النقيَّةِ تحت أمرك.
جلس شكيب على الأرض، تناول عوداً من فوق التراب، كسرَهُ، وتابع:
– ماذا أروي لك أيها العظيم؟! في زمننا العربي هذا الذي أسمِّيه: زمنَ الشطارة والفهلوية يُولَد عندنا كلَّ ساعة من الأدباء والفنانين أضعافَ أضعافِ عدد المواليد من البشر! كيف؟ صدِّقني لا أعرف! كأنَّ الأديبَ أو الفنان من هؤلاء يصبح مبدعاً مكتملاً خلال ربع ساعة! مدجنةٌ ثقافية؟! مفرخةُ أرانب؟! حفنةُ ذُرة تتحوَّل إلى بوشار في لحظات؟! الله وحدَهُ يعلمُ بما يجري، وكيف يجري!
سرت شرارةُ غضب في قلب الجبل، فبرَّدَ قدميه في الينبوع الفائر عند السفح، ثم تساءل:
– ألهذا الحد؟! إنه أمرٌ غريب!
– الأغرب يا جبلي الغالي أننا في هذه اللحظة من تاريخنا بحاجةٍ مُلحِّة إلى نهضة عارمة في هذين الأمرين.. أقصد فنونَنا وآدابَنا، فالسياسةُ في بلاد العرب تولاها صِغارٌ ورجالٌ ليسوا من أهلها، والدينُ أيضاً تولاه الجهلة، ورجالٌ ليسوا من أهله! وهكذا.. فطبيبُ الأدب والفن يجب أن يكون متأهباً، نابهاً، أو عظيمَ النباهة ليصلح الحال، لكنه- على عكس- ما نأمل بات فيما بعد الدركِ الأسفل!
تحدَّثَ شكيب بعد ذلك عن الأدباء الذين يُكوِّنون على وسائل التواصل الاجتماعي شللاً أدبية تُنتج أدباً راسخاً في التفاهة، وعند نشره تتبادل المديح، كما تتبادل الطنينَ ذبابتان! تحدَّثَ أيضاً عن الممثلين والممثلات الذين انصرفوا وانصرفن عن اتقان الصنعة إلى الهندام، والموضة، وعملياتِ التجميل الطبية لتصغير وتكبير أعضاء الجسم! ومن حيث الأعمال انصبَّ اهتمامهم على دراما الرعب، والفوازير، والبطولات العنتريَّة الفارغة!
بلع شكيب ريقه، وأضاف:
– وفوق ما سبق كلِّه طوَّرَ الانحطاط نفسَهُ، فحدث أمرٌ ألعن!
رفع الجبل حاجبيه مستفسراً وغضبه يتصاعد: – ماذا حدث؟!
– ليت معي تلفازاً لأريك أيها الجبل برنامجاً، اسمه: (رامز مجنون رسمي)! لو شاهدتَ حلقةً واحدةً منه لأطلقتَ جميعَ نزلاء العصفورية، وألقيتَ القبضَ على صاحب البرنامج وداعميه! باختصار البرنامج ينشر ثقافةَ الأذى أو الأذى المبتكَر، ويشجع على أن تُعذِّب غيرَك بنشوة قصوى، هو يتألم ويصرخ وأنت تضحك.. تضحك! البرنامج أيضاً فيه رموز واضحة لعبادة النار، والشيطان، وتمجيد الهستيريا!
بلغ غضبُ الجبل الذروة، اهتز من الهياج، فتطاير الحصى من فوق أطرافه، بينما تمتم شكيب:
– لن أتعبك الآن أكثر يا جبلي العزيز. هناك المزيد، وسأحدثك عنه في لقاءاتٍ قادمة.
*

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!