الفصل الأول من رواية الغداء الأخير / للروائي الأردني توفيق أحمد جاد

 

  أصابني الذّهول من ذلك المنظر المرعب، وأنا أقف على تلك الصخور في حارتي الجبلية.. اشتعال النيران والتهامها للحديد والصُّخور، زاد مِنْ لهيب حزيران الحارق.. نارٌ تشتعل وقلبٌ ينفطر.. منظرٌ لمْ أعهده مِنْ قبل، بدأت الحرب تستعر في قلوبنا قبل استعارها في ميدان المعركة، لتطفئ كلّ شمعة أملٍ كنّا نعيش عليها أو نحلم بها.

 

  لست أدري لِمَ عاد ذلك الحلم البغيض يسكنني ويغزوني! راودني لسنوات مضت، كِدْتُ أنساه.. حسبته شاخ وهرم.. مات ولن يعود، فوجئت به يأتيني شاباً يافعاً قويّاً، يحتلّني ويغرز أظفاره وأنيابه في ثناياي، خشيت كثيراً منْ أنْ تكون أحلام الأمس.. هي حقائق اليوم، فما بين الواقع والحلم.. تُخلقُ الآمال والآلام، تمنيت في تلك الأيّام لوْ تبخّر ذلك الحلم اللعين، فلا يعود له وجودٌ، يرعبني.. يشلّ كلُّ حواسي حين يهاجمني.

 

  شهر حزيران، هو رمز الفرح والسّعادة للأطفال والصّبية، نهاية العام الدّراسي، الذي ينتظرون قدومه بفارغ الصّبر، وبداية لمرحلة يعشقونها بشغف،  تبدأ معها رحلة اللعب بلا حدود ولا منغّصات…

 

  أصحو من نومي والابتسامة ترتسم على محيّاي، أمّا في تلك الليلة التي شعرت فيها بالشؤم، فقد أفقتُ مذعوراً، أبكي بكاءً مريراً، لا أستطيع التقاط أنفاسي، أحسست بماء دافئ ينساب بين فخذيّْ، رغم أنّني أصبحت صبيّاً، تهرع أمي كعادتها، حين كنت أصحو وحالتي كهذه، تحمل كأساً من الماء بيدها، تذكر اسم الله عليَّ وتقرأ المعوّذات، تحتضنُني.. تضُمُّني إلى صدرها بقوة.. تُطوّقني بذراعيها الحنونتين.. أُحسُّ بأنّها تُودُّ لو فتحت صدرها وأخفتني في قلبها الأبيض.. تلفّني بطرف ثوبها الذي أشتمُّ منه رائحتها التي تُنْعشني وتشعرني بالاطمئنان.. تُهدهدني كرضيع لا يأمن إلّا في حِجر أمّه وعلى صدرها.. تنساب دموعي بغزارة، عندها تأخذُ بطرف ثوبها.. تمسح دموعي المُنسابة على وجنتيّ كروافد الأنهار، بلطفٍ وحنان.. تقرأ عليّ القرآن أحياناً، وتقوم بالنّشيد والغناء أحياناً أخرى.. لم تَكُنْ تحفظ من كتاب الله سوى المعوّذات، بعدها.. تلجأ إلى الأناشيد أو الغناء حتّى تُسيطر على بكائي وخوفي.. فأهدأ، تُحاول أن تُديم التّكلُّم حتّى تشعرني بالأمان.. فأسكت.

 

  لمْ تملّ من تكرار روايتي للحلم.. تُربّتُ بلطفٍ على ظهري، وتقول لي وانقباضٌ ينغرس في صدرها، ودمعة تصحو على وجنتها: لا تخفْ يا ولدي.. ها هو والدك يقف في الصلاة، سيدعو الله بأن يجنّبك هذا الحلم اللعين، أمّا تلك الوحوش، فقد أحسّت بوجوده وهربت، أعدك يا ولدي الحبيب أن لا تعود، فقط.. نَمْ قرير العين.. هادئ البال.. وها أنت ترى أنّك في حضني، ولا شيء يستطيع أن يصلك. تستمرّ أمي بحديثها وتطميناتها.

 

  أثارتني تلك الدّمعة التي لمعت على خدّها، رغم الضَوْءُ الخافتُ في الغرفة، والمُعلّق على ارتفاع لا تكاد أن تصل إليه، إلاّ إذا صعدت على ذلك الكرسي المائل، والذي يُنذِرُ بسقوطه تحت وطأة وزنها، على مهلٍ.. تنساب يدي تحت جفنها، واصبعي الصغير يداعب شعرها.. والآخرُ يتسلل خفية، كيْ يمسح كرة الدّمعِ التي سقطت خِلسة على الأرض، وأمي تُشيحُ بوجهها حيث تُشرق الشمس. مِنُ فوق كتفها.. لَمَحْتُ أبي يرفع يديه داعياً: اللهم لا تُفرّقْ شملنا.. واستر عوراتنا.. وهدئ مِنْ روعاتنا.. وكأنني لا أعي ما يقول، ومع ذلك.. فأنا أستمع لها بشغف، أُحسُّ بالأمان.. أسرح بتفكيري بالحارة والأولاد واللعب.. أحاول أنْ أحلم بالسعادة والفرح.. أفكر بكرة “الشرايط” التي صنعَتها لي مِنْ مُخلّفات ملابسنا التي اهترأتْ، أحاول أنْ أتذكّرَ أين وضعتُها بالأمس، كي لا تضيع مني بعض الدقائق في البحث عنها.. متناسياً تلك الصور المرعبة.. تناقض التعب أعياني.. كثرة البكاء أرهقتني.. دِفءُ دموعي المنسابة على وجنتي، المتسارعة عبر رقبتي لتحتلّ صدري البارد، تُشْعرني بحلاوة دِفئها، فأعود أغطُّ في سُبات عميق.

 

  لمْ يفسّر لي والداي ذلك الحلم المخيف، ربّما يقوم الواقع بتفسيره يوماً ما، فيكشف ما أخفى الزمن بين ثناياه، فالحلم المتكرر لا بدّ وأن يُفسّرُ، سواء بفرح أو بترح، ربّما يرسمه الواقع قريباً أو بعيداً، الأيّام حُبلى، ستتمخّض عن ولادات كثيرة، ويبقى السؤال: هل سيكون هذا الحلم من بين المواليد؟ هل كان حلماً عابراً؟ ماذا يُخبّئ بين جنباته؟

 

  نعيش بسلام آمنين مطمئنين، نلعب نهاراً وبعضاً من الليل، دون خوفٍ أو وجلٍ، سعادتُنا لا توصف، رغم أنّنا نلعب بالتراب؛ فتصاب عيوننا بالالتهابات، وتتّسخ ملابسنا، فتعاقبنا أمهاتنا عند عودتنا لبيوتنا. نأخذ الأسلاك الشائكة، والتي اعتدنا أن نقصُّها مِنْ شيك إحدى المزارع القريبة والمهجورة إلاّ من الغِربان السود..  نسحب منها النتوءات الحادة، ثم نصنع منها سياراتٍ على اختلاف أشكالها وأحجامها، وكلّما كان الإتقان واضحاً في ذلك التصنيع، ازداد تفاخرنا على أقراننا، حتّى أنّنا اعتدنا أنْ نذهب إلى الحارات الأخرى لاستعراض ما صنعنا والتباهي به بين الأولاد، رغم ما تتركه الشمس الحارقة من آثارِ وخيوط سوداء تتعرج على جبهاتنا.

 

  لمْ يقتصرْ اللّعب نهاراً على ذلك، بلْ تعداه إلى ألعابٍ أخرى مثل  “اللّحقة والشّردة”، عندما نهرب خلال لعبنا.. تتعالى أصواتنا بالضحك مِنَ الفرح والسرور.. نتيه في عالمٍ من السّعادة.. نلعب ونركض حفاة الأقدام.. فلا أحذيةً نلبسها، إلّا للمدرسة والزّيارات التي كانت شحيحةً علينا، كانَ أحدهم يلحق بنا.. نهرب منْ أمامِه في اتّجاهات مختلفة.. يرقبنا بعيونٍ متفحّصَة.. يتابعنا باهتمام.. يُتابع الأكثر ضعفاً فينا، ليقرّر مَنْ هو فريسته القادمة.. يستبطيء أحدنا.. يركض خلفه حتّى يمسك به.. يصبح – الممسوك – هو المُلاحِق الجديد، وهكذا.. إلى أنْ يُنهِكَنا التعب، أو نختلف.. فنتشاجر ونتوقف.! إلاّ أنّ قلوبنا البيضاء لا يُخالطها أيّ سواد، كَبُرَ الخلاف أو صغُر.. فلا يستمرّ الخلاف ولا يترك أثراً في نفوسنا.

 

  عندما يجنّ الليل.. نلعب “الغمّيضة” فنتخفّى جميعاً.. ويبقى أحدنا يبحث عن الباقين، كان عليه أنْ يتحدى العتمتين، عتمة الليل وعتمة -الإغماض- اللتان تضيفان السعادة والفرح لحياتنا رغمَ السواد والظلام.. للفقر الشديد تأثيرٌ واضحٌ.. فلمْ يكنْ لأيٍّ منّا كُرة.. فكنّا نستبدلها بكرة تقوم أمهاتنا بصنعها لنا، منْ بقايا الملابس المهترئة، لنلعب بها لعبة “السبعة حجارة”.. حيثُ كنّا نصفُّ سبعة منَ الأحجار متوسطة الحجم فوق بعضها.. ثمّ نقوم برميها “بكرة الشرايط”. وعندما تقع الحجارة نهرب في كلّ الاتّجاهات، ليرمينا بها واحد منّا.. فإذا أصابت أحدنا يصبح “ميتاً” وبذلك لا يحقُّ له أنْ يستمر باللعب، بلْ يقوم بالجلوس بعيدًا، والانتظار حتى يتمكن الآخرون من إعادة البناء وصفُّ الحجارة، فيعود للّعب مِنْ جديد، وأمهرنا هو منْ يُحاول  تجنّب الإصابة بالكرة للاستمرار باللعب.

 

  سعادتنا باللعب تستحوذ على كلّ اهتماماتنا، ورغم أنّنا كنّا كثيرا ما نتعثر ونقع على الصخور بسبب وعورتها، فنصابُ بجروح ورضوض، إلّا أنّنا كنّا ننهض من جديد لنتابع لعبنا، بلا يأسٍ أو مللٍ.

 

  لمْ تدمْ هذه السعادة طويلاً.. فقدْ بدأتْ الطائرات والمدافع تغتصب الفرح والابتسامة لتسرقها منْ عيوننا التي لم تعرف الحزن يوماُ.. أَنظرُ منْ أعلى الجبل إلى بيوت المخيم، الذي ولدتُ فيه، وترعرعتُ على أعتابه، فرغمَ تواضعها، إلّا أنّها كانتْ ترسمُ لوحةً فسيفسائية، تتكوّنُ منْ بيوته، وأشجاره، وأزقّته الضّيقة.. تلك البيوت، التي كانتْ تهتزُّ على وقعِ أصوات الانفجارات الشديدة،  فتجعل أفئدتنا ترتجف خوفاً ورعباً لتنزع ما تبقّى فيها منْ سعادةٍ وفرح.. نركضُ في جميع الاتّجاهات، للبحث عنْ زاوية أوْ مكانٍ آمنٍ نأوي إليه.. البكاء يتعالى، والصراخ يرتفع، النّساء يبحثن عنْ صغارهن بالعويل والصراخ، يتصادمُ الكبارُ والصّغار، لا يلوي أحدهم على شيء، فالرعب أفقدهم التفكير والتركيز. اشتعال  النّيران في منطقة السّكة الحديديّة والكسارة الملاصقة لها، يزيدُ المشهدُ رعباً وخوفاً، وترتفعُ أصوات الانفجارات وهدير صوت الطّائرات.

 

  لقدْ احتلّ الإنجليز أرض المخيّم عام 1919م، حيثُ أنشأوا سجناً على أرضه. قام الإنجليز ومِنْ خلفهم العالم، بطعن فلسطين بخنجرٍ مسمومٍ بخاصرتها، أحكموا غرز ذلك الخنجر كاملاً في الجسم الفلسطيني الجميل، ليعمّ الألم جميع أرجاء الوطن العربي والمسلمين، فتبدأ مسيرة الألم والحُزن.

 

  في عام 1949م.. تعرضت فلسطين لعاصفة ثلجيّة قويّة.. أدّت إلى تدمير خيم مخيم “جنزور” الذي كان قد تمّ إنشاؤه عام 1948م للناس الفارّين منْ مدنهم وقراهم داخل فلسطين، فأنشأته الأمم المتّحدة قرب جنين.. بعدَ أنْ دمّرته العاصفة الثلجيّة.. قامت الأمم المتحدة باستبداله بمخيم “نور شَمْسْ”، هجرة تتبعها أخرى، وشتات يتبعه شتات آخر، وكأننا طابات صغيرة، وُضِعَتْ في وعاء، فيهُزُّها ويُحرّكُها حاملها كيفما أراد.

  كان التّشديد على السّجناء يجعلهم يُفضّلون العمل في الكسّارة على البقاء داخل السّجن.. فالسّجين في الكسّارة.. يعود مساءً فرحاً بين أصحابه.. ليقول لهم: “أنا اليوم شُفِتْ نور الشمس”. ( من هنا جاءت تسمية المخيم بهذا الاسم ).

 

  تولد قصّة معاناة كلّ ساعة وكلّ يوم داخل غياهب هذا السجن، فكانت حالات الجنون والحالات النفسية تنتشر بين السجناء.. تتوالى حالات الانتحار ومحاولات الهرب أو إيذاء النّفْس، بدأ البعض منهم بمحاولات الهرب والبعض الآخر فضّل أنْ يمتنع عنْ الطعام والشراب، فكان الموت هو نهايتهم في الحالتين.

 

  فجأة.. وأنا مشدوه ممّا أراه أمام عينَيّ، وإذا بصوت لمْ أعهده منْ قبل، صوت هدير طائرة صهيونية.. زاد أزيزها منْ رُعبي  وبلاهتي.. تتبّعتُها بنظري.. وبدأتُ السباق مَعَها.

 

  هرعنا للاحتماء.. بيْنما نحنُ في المغارة، نختبئ مِنَ القَصْفِ.. سادت بالخارج  فوضى عارمة، ارتبكنا.. فَمِنْ امرأةٍ نائحةٍ إلى طفل باكٍ، ومِنْ رجالٍ شديدي القلق إلى أطفالٍ مذعورين.. الأصوات تتداخل لتتسبّب بفوضى شديدة وقلق مريب.

 

  في هذه الأثناء دخل والدي، ومعه بعض الرجال، أحاطوا بالمشاعر المتخبّطة.. نظّموها.. ثم بدأوا بإصدار تعليماتهم للناس بالخروج من تلك المغارة، واللحاق بجموع الهاربين إلى الجبال، خرجنا بفوضى وتخبُّط.. ركضنا متجهين إلى الجبال القريبة، محاولين اللحاق بمن سبقنا من الناس دون البحث أو التدقيق عن أيّ من أفراد الأسرة، بدأ تشتتنا.

 

  في لحظة أربكتني.. التفتّ إلى الوراء.. نظرت إلى مدرستي مودّعاً لها، كانت تربض على قمة الجبل الغربي للمخيم، وكأنّها قلعة شامخة، اعتقدتُ حينها أنّي سأعود إليها يوماً ما، ولن أراها مرةً أخرى ! وإذا بقذيفة  تصيب زاويتها.. فتهدمها! – أذكرها جيداً.. لن أنساها- اعتصر قلبي ألماً عليها، في ثوانٍ قليلة، استذكرت أصحابي ومدرّسيّ، وذكريات، اختلطت فيها أيّام سعادة، وأيّام شقاء.

 

  ركضتُ متخبّطاً بين الناس، حتى وصلنا إلى سلسلة حجرية ترتفع قليلا، المنطقة اكتظّت بالناس، وذلك لصعوبة عبور تلك السلسلة، هناك.. يقف رجلٌ كالطّوْد.. أسود البشرة.. طويل القامة.. العرق يتصبّب من جبينه.. حذاؤه بضخامة نعلين.. وكأنّه مارد، كان يحمل الأطفال وينقلهم إلى الجهة الأخرى، مساعداً لهم على تخطي ذلك العائق الصعب، رأيت السلسلة وكأنّها سور عظيم ليس لعلُوِّها، وإنما من الخوف الذي سكنني.

 

  ما أدهشني وأثار استغرابي، أنني سمعتهم يتحدثون عن تأخُّر والدي وعودته للبيت من أجل إحضار بعضاً من حاجاتنا الضرورية، كيف يعود ونحن لا نعلم حقيقة الأمور، نسمع أصواتاً مرعبة فقط، أصوات طائرات وانفجارات.

 

أخي الثاني، والذي لمْ يتعدَّ عمره الأحد عشر عاماً.. يحمل أختي “رويدة” التي لم تتجاوز العام من عمرها.. قام بإلقائها في الطريق بسبب التعب والخوف الشديدين، على مقربة منه كان يسير أخي الكبير، هرول إلى أختي، التقطها ..وذهب بها إلى بيت جدّي، هنا.. انقسمنا.. وكان هذا حالنا، دار جدي كانوا يفرّون  باتّجاه الشرق، حتى وصلنا إلى منطقة “كفر اللبد” القريبة من بلدة “عنبتا”. أشار الكبار بالتوقف والمكوث قليلاً تحت أشجار الزيتون، للاحتماء فيها.. يحاولون إخفاءنا عن أعين الطّائرات، ريثما تتضح الأمور وتنجلي الغمامة. هذه الأشجار التي باركها الله.. قدّمت لنا فوائد أخرى زادت عن الظلّ والغذاء.

 

  بدأ أرباب الأسر والكبار بمحاولة لمّ الشمل.. والبحث عن أفراد أسرهم، البحث عن مفقود كالبحث عن إبرة في كومة قشّ، والدي بادر بالسؤال عن أخي رفعت وأختي رويدة، وبعد عناء طويل.. أفاد أحدهم بأن أختي وأخي ليسا بعيدين، وأشار إلى الجهة التي كانا فيها، مع جدّي وعائلته.

 

  بدأت المصاعب والمشاكل تطفو على السطح وتتضخم.. فالناس بلا طعام أو ماء.. و الموت أقرب ما يكون إليهم! في وضع مُرْبكٍ كهذا، لم يكن الرجال يجزمون بأفكارٍ أو حلول ناجعة، فهم يتخبطون كمن لدغته أفعى أو كمن يهاجمه وحش ضار. أصدروا قرارات وحلول و جربوها.. غالبا ما كانوا يفشلون.

حلّ الظلام.. وما زالت الطائرات الحربية الصهيونية، تمرّ من فوق رؤوسنا، لترعبنا بأزيزها المرتفع.. تطير بانخفاض شديد وسرعة فائقة وكأنها شياطين المساء، لا ندري من أين تأتي، ولا إلى أين تذهب.

 

  نسمع أصواتَ انفجاراتِ قنابلِ المدافعِ بمنطقة المخيم والمناطق المجاورة، ومع شدّة التّعب والإرهاق وكثرة البكاء.. نمنا. الكوابيس وصور الموت المختلفة والمتعدّدة بكلّ بشاعتها، لمْ تفارقَنا في تلك الليلة. زوجة أحمد الحلو.. بدأت تعاني مِنْ آلام المخاض، تُرافقنا  “الدّاية أم محمد”، بدأت علامات الولادة تتزايد.. طلبت أم محمد من بعض النسوة أن يقفن ليشكلنَ حاجزاً، وساتراً لها على شكل دائرة، ليُحِطْنَ بها، كان صراخها  مسموعاً للجميع.. آلام الولادة تشتد وتقوى.. وبعد ساعة من المعاناة.. سمعنا صراخ الطفل.. أخيراً.. جاء إلى الدنيا طفل تعيس الحظ، ليكون شاهداً جديداً على المأساة.

 

  ابتهجت السماء لولادته.. زغردت النساء فرحاً رغم كلّ ما يحلّ بنا، وتداخل الفرح والسرور مع الخوف والغضب، اللّذَيْن كنّا نعاني منهما، لكنْ.. غلب على المشهد فرحنا بالمولود الجديد.. فرح يسير، بعد ألم طويل، حضر المولود وغابت حلويات ولادته التي كنّا نتشوق لأن نراها.. نسينا الطائرات وانتظرنا الحلويات.

  مضى على هذا الحال، ثلاثة أو أربعة أيام، والنقاش المستفيض بين الكبار مستمر حول ما رأوه خلال زيارتهم للمخيم، تارةً يقولون أنّ المخيم يسوده هدوء حذر، وكأنّه غابة أشباح، وأخرى أنّ الصهاينة شوّهوا ملامحه، فلا دلائل على وجود حياة فيه، كلّ شيء ساكن إلاّ من حركة خفيفة للأشجار، وكأنها بحركتها هذه، تنوح على ما حلّ بأهل هذا المخيم، أمّا الحيوانات والطيور، فلم يعد يُسمعُ لها أصوات، فربما أخرسها الخوف والرُّعب.

 

  كلّ ما كان في المخيم ميت، ينتظر البعث والنشور، إلاّ من حركة الجنود المدَججين بأسلحتهم.. يصطفّون متأهبين على الشارع الرئيسي، الواصل بين مدينتي طولكرم ونابلس، ذلك الشارع الذي يقسم المخيم إلى قسمين، هو ووادي الزّومر الذي كان يحاذي الشارع على طول امتداده، وكأنّ كلّ منهما يقوم على حراسة أخيه. الجنود يرتدون لباس أحد الجيوش العربيّة، اقتربوا خلسة من الجنود حتى أصبحوا يتبينون ملامح وجوههم، كانت ألوان بشرتهم متعددة، فهم عبارة عن خليط من جنسيات عدّة، أشكالهم لا تدلّ على أنهم عرب، وجوهٌ غريبةً لم نعتدْها.

 

  بدأوا بالتشاور مع باقي رجال المخيم بشأن المرحلة القادمة.. استمرّ نقاشهم يوماً أو بعض يوم.. الإرباك وسوء الرأي أخّرا قرارهم، ليعتمدوا القرار الأخير بذهاب مجموعة من الرجال، ممن يتحدثون العبريّة، إلى المخيم لاستطلاع الأمر، وليتحدثوا إلى الجنود. عادوا بعد ساعات، وعلامات الانزعاج والقلق بادية على محيّاهم، مِنَ المؤكد أنّ ما رأوْه، صدمهم وأربكهم!.

 

  الجميع ينتظر سماع نشرة الأخبار، على أحرّ من الجمر.. انتظارٌ قاتلٌ.. اللّهفة تنهشُ قلوبنا.. ننتظر بفارغ الصبر لسماع أخبار سارّة، من المذياع الوحيد الذي تواجد مع أحد الشيوخ الكبار، كان يَصدر كلّ دقائق قليلة بياناً عسكرياً يذيعه “أحمد سعيد”، يُعلن فيه عن انتصارات عربية جديدة على الجبهة المصرية والسورية والأردنية.

 

  جلس الرجال.. تحلّقَ النّاس من حولهم.. يستعجلونهم بالبشرى، لكنّ الصدمة وقعت على رؤوسهم وقع الصاعقة، فقد جاء الردّ مفجعاً ومؤلماً، فالصهاينة احتلّوا البلاد كاملة وانتهى الأمر، والجنود الذين يلبسون اللباس العسكري العائد لأحد الجيوش العربيّة،  ما هم في حقيقة الأمر إلاّ جنوداً صهاينة مغتصِبين.

 

  اختلف الناس في آرائهم، منهم من فضّل أن يستمرّ في السّير شرقاً إلى الأردن، ومنهم من فضّل العودة والموت ببلده، فاحتمال الموت في الحالتين وارد وربّما مؤكّد بالنسبة لنا، أصبحنا في أحضان ألدّ الأعداء، يحيطون بنا من كلّ جانب، لا مفرّ منهم إلاّ بمواجهتهم. قرّر والدي أنْ نعود إلى المخيم، لكنّ جارنا “أبو طبيخ” اقترح أن نذهب إلى مغارة “أبي كعبل”، في جبل قريب من بلدة كفر اللبد، فإن أمنّا.. مكثنا، وإلاّ.. عُدْنا إلى المخيم، أمانٌ أشبه ما يكون بأمان الغنم من الذّئب.

 

  جاء بعض المارّة.. أجلسهم والدي وسألهم: من أين أنتم؟ ومن أين حضرتم؟.

أجاب أحدهم- وكان مُسِنّاً- : نحن من بلدة (عنبتا) والبعض منّا من قرية (بلعا).

– والدي: وماذا حصل معكم؟.

– المسن: دمّرونا.. ما الذي قد يحصل أسوأ من هذا؟.

– والدي: هل قُتِلَ أحدٌ عندكم؟.

– المسن: بلا شكّ.. ضربوا الناس.. و سرقوا كل شيء…

اغتاظ والدي، وقال: “والله ما برُدّ رأسي إلّا داري.. هي ميتة واحدة.. خلّينا نموت بدورنا أحسن من هالبهدلة.. هيّا يا أولاد، قوموا، وتَحرّكُوا  إلى المخيم”.

 

  أمّا جدي فأقسم أنْ لا يبقى في بلدٍ يحتلّه اليهود، حتّى لو كان هذا البلد هو بلده.. طلب من والدي بأنْ يأخذ معه أخي الكبير ليشتمّ منه ريح أمي.. لم يتردد والدي بالموافقة.. وغادرونا متجهين إلى الأردن. في اليوم السادس للحرب، تمّ إعلان الهدنة، ووقف لإطلاق النار بفرض واقع جديد بين الأردن وسوريا ومصر من جهة، والكيان الصهيوني من جهة أخرى، فقد احتُلّ ما تبقّى منْ فلسطين، والجولان السوري، وسيناء المصريّة، فمن النكبة إلى النكسة، والذلّ والعار يتلاحقان، ليضيع أمل الناس بالعودة لما اغتُصِب من فلسطين في عام النكبة، فاتّسعت دائرة الاحتلال لتشمل دولاً عربيّةً أخرى.

 

  عاد الشتات من جديد.. اختلطت الأوراق.. الذُّهول عمّ الجميع.. تخبّط وضياع.. لم يتيحوا للعائلات أن تقوم بِلَمّ شملها.. فمن كان خارج المنزل انقطع عن أهله.. اعتبروه في عِداد مَنْ فُقِدوا.. أصبحت العائــلة الواحدة تنقسم بين الأردن وفلسطين، بلْ في دول ٍأخرى ومتفرّقة مِنَ العالم.

 

  هذا الشتات أدّى بالحكومة الأردنية، والإعلام الأردني إلى استحداث برنامج إذاعيّ.. يتواصل معه الناس الذين فقدوا بعضهم، ليعلنوا من خلاله عن أنفسـهم، ومكان إقامتهم  بالأردن أو أي بلد آخر.

 

  الحياة تمرّ رتيبة مملّة، والفقر ينهش القلوب والأرواح بلا رحمه.. اتّسمت حياتهم وعيشُهم بالضّياع.. ضياع كل شيء.. فلا أمل لهم بالعودة قريباً.

 

  كان الاحتلال يجتهد ويضع كل إمكاناته ودهائه لتحطيم الروح المعنوية لدى الفلسطينيين، ولم يُتح الفرصة لهم لالتقاط أنفاسهم، توقفت عجلة العمل ودورته الاقتصادية، ليزداد الوضع سوءاً على سوء، لدفعهم قسْراً إلى الهجرة، ومن تشبّث بالبقاء عليه أن يمتثل لأقصى درجات القهر، والموت كمَداَ.

بدأت المقاومة من خلال أعمال فدائية، تنطلق من الأردن باتّجاه الأراضي المحتلة، الجيش الأردني بدأ يقوم بتسهيل مهمة الفدائيين، وكثيراً ما كان الفدائيون يقومون بعمليات ضد اليهود، وعند انسحابهم كان اليهود يقصفونهم بقوة، لكنّ الجيش العربي كان يُقدّم تغطية لهم، وذلك من خلال الرد على الجهة التي تقصفهم، وكثيراً ما يتم حماية القوة المنسحبة ليصلوا سالمين، ولكنهم متعبين ومرعوبين، كونهم يُلاحقون من عدوهم بوابل من الطلقات والقنابل، فيستقبلهم بواسل الجيش العربي، يقدّمون لهم الزاد والشراب.. يصبحون آمنين مطمئنين، ويعودون لأهليهم سالمين، أمّا بالنسبة للمصابين منهم فقد كان الجيش العربي يقوم بتأمين الرعاية الصحية والعلاجية لهم.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!