الى قضاء الشوف وبيت الدين ( يوميات بدوي في بيروت )

بقلم : محمد صوالحة

بعد العودة من جعيتا … غرقتُ في نوم عميق … لم أنمه منذُ عرفتُ معنى النوم … كانت الصور تتداعي … والأحلام تتجسد وتتراءى لي في المنام … كيف تحولت حجارة وهوابط وصواعد جعيتا إلى صور وأصوات أحدثها وتحدثني …. كيف تحولت الى صبايا من نور .. اغازلها بكل جوارحي .
اليوم التالي كان استراحة … لم أغادر به إلى أي مكان بل صلبتني على شرفة البيت … أطالع الوجوه … وأحاول أن اقرأ المكان بطريقة مختلفة … القهوة من إنجيليا لم تنقطع … وهاتفي البسيط … يلتقط الصور لكل ما يلفت انتباهي … أكتب … أمزق … سيجارتي لا تنطفئ … وقهوتي لا تنتهي … وكلما طلت إنجيليا وجدتني على ذات الحال .
انتهى اليوم سريعا … وعدت للغرفة أطالع مواقع التواصل الاجتماعي … أُجري المكالمات الهاتفية … وكلما اتصلت بتلك الحسناء التي طالما تمنيت لقائها أؤجل موعد اللقاء …أخبر إنجليا ما كان يدور من حديث .
وكما الأيام الماضية نعاود السهر ومناقشة ما يفيض به القلم … وقبل أن تغادر أحضرت لي قهوتي… والشوكلاته الشهية وبيرتي المفضلة … أنادي النوم فيعصى أمري … أغريه اغويه بالحسان اللائي سيزرن أحلامي … ويأبى أن يطاوعني … وقبل أن يتنفس الفجر عدت لاقف على الشرفة منتظرا أن تداعب الشمس عيوني . بقيت أطالع الناس يتجولون … ويشرد خيالي إليهم … وأبقى على هذه الحال حتى يأتي الصوت الملائكي ليعيدني من شرودي .. أن تعال محمد اليوم سيكون مشوارنا طويل ..
** إلى أين ؟…
– لا ادري …
** الخبر عند أبي نجيب .
نجلس إلى طاولة الإفطار … أتناول قهوتي وأشعل سيجارتي… تنتبه لي إنجليا و تقول :
ما على هذا اتفقنا …
اتفقنا القهوة والسجائر بعد الإفطار .
ابتسمت قلت لا رغبة لي بالطعام … اشعر بوجع يداعب معدتي .
قالت : بعد قليل سيذهب الوجع .
تركتهم يكملون إفطارهم وذهبت لأبدل ملابسي واستعد … وما أن أتممت حتى جاء الصوت بدل ملابسك محمد أبا نجيب ينتظرنا في السيارة .
قلت : أنا جاهز وهاأنا في غرفة الاستقبال …
قالت إذا هيا .
مولي … تلك الرائعة الأثيوبية … تشيعنا حتى الباب وابتسامتها ترتسم على كل وجهها .. وأنا أقول لها انتظريني حتى أعود لألقي بك من النافذة .
فتردد وهي تضحك ( O.K )
نهبط وإذا بالشاعر الرائع الياس القزي يقف مع أبي نجيب يتحدثون … وما أن القينا تحية الصباح عليهم وقبل أن أصافح الياس قال أبو نجيب : هيا اصعدوا صافحه وأنت بالسارة .
صعدنا الياس في المقعد الأمامي وانجليا وانجي وأنا في المقعد الخلفي … اسأل ابا نجيب الى اين يا سيدي نشد الرحال ؟.
قال: كل الاماكن في لبنان تشد اليها الرحال . انطلقت السيارة باتجاه الجنوب … تجاوزنا الضاحية الجنوبية . المكوث بالسيارة يعني الحرمان من التدخين والقهوة … ووحدها رائحة العطر … تستبد بالمكان … تمارس جبروتها الشهي على الحواس … والحديث عن المكان يجمالياته .. تاريخه … وحاضره.. او القاء النكات … والضحكات تقاطع صوت فيروز نضفي الراحة على النفس وتزرع الفرح في القلب .
المركبة تتجاوز القرى … وارى الشارع يداعب الإطارات .. وكأنه يريد الإمساك بها وإيقافها .. أنا والطريق متفقان على هذا ولكن أبا نجيب يصر أن يتابع مسيره ويتجاوز كل محطات الجمال التي مررنا بها .. أبو نجيب إنسان هادئ جدا .. ودود جدا … طيب القلب .. رزين .. لا تهمه الحسان .. ولا تلفت انتباهه .. بعكسي تماما . اخرج علبة سجائري .. اتحسسها وبي لهفة لاشعال سيجارة اقاوم بدخانها رائحة العطر التي احتلتني والمكان .. ولكن هناك ما يمنعني عن التدخين … وكأن انجليا تعرف ما يدور برأسي … فتقول دقائق وستداعب سيجارتك كما تحب … وستشرب قهوتك كما تشتهي … اسرح بخيالي بعيدا عن المركبة وما فيها .. الى حيث كان السابقون هنا … هل يعقل لم يكن فيهم شاعر واحد يتغزل بالمكان … هل يعقل ان قصص الحب هنا مجرد اساطير … وارد على نفسي … ربما لعنف الحب هنا … ولتفرده تحول الى اسطورة … تسالني انجيليا الى اين ذهبت .. فأجيب انا معكم … فتضحك انجي وتردد هنيئا لمن طرت اليها … فتضحك ونضحك .. حتى غاب صوت فيروز .. وتتابع يا خال .. ابقى معنا بروحك وجسدك فالجسد بلا روح لا يعني شيئا الا الغياب . ((كم كنت اود لو ان حسنائي الرائعة برفقتي ..)) .اعاود الشرود بعيدا … واستحضر نزار قباني … سعيد عقل اتمتم كيف لا يبدعون ويتميزون وهم هنا كانوا يقيمون .. يحطيهم الجمال من كل مكان … كيف لا يتميزون وهم يقيمون فوق هذه الارض التي حملت التاريخ … يخطر ببالي جبران بفلسفته العميقة .. كيف لا يكون حكيما فيلسوفا وهو هنا ولد وهنا تربى .
ومع بأول عبورنا لمنطقة الدامور .. قال أبو نجيب هنا لنا صديق سنمر للسلام عليه .. وانحرفت المركبة إلى جهة اليمين .. ودخلت طريقا ترابيا … وما إن توقفنا .. وهبطنا من المركبة حتى سمعت صوت البحر ينادني … إليه ركضت كما المجنون … بللتني بمائه … غسلت وجهي …إنجيليا وانجي تتبعاني على مهل .. وصلن وأنا أداعب الماء .. وأراقص الموج .. أتغزل بالبحر وأتعاطف مع الشاطئ … وأطالب البحر بهدنة مؤقتة مع الشاطئ حتى نتمكن من عقد المصالحة بينهما . وكالعادة كلاهما يصر على موقفه ولا يتراجع او يتنازل لخصمه .

إنجيليا تخبرني بان القصر الذي ليميننا هو قصر الحريري … فقلت ملعون هو المال .. آه كيف سيحاسبون عليه .. عندما يسألون فيم أنفقتموه .
هنا كل الاشياء تداعبك .. رائحة الاشجار تغريك بالبقاء نلتقط بعض الصور ونعود … نمر بجانب المزرعة المحمية (( البيوت البلاستيكية )) فاستذكر الغور الذي تحول إلى بحيرة من البلاستيك … ومدى ما يعانيه المزارع في بلادي .
نواصل طريقنا إلى البيت الذي صعد إليه أبا نجيب والياس … تلفت انتباهي بعض الأقفاص… اتجه إليها برفقة انجي … عدد من الحيوانات والطيور المختلفة … الطاووس … الفري … والقرد … أشعلت سيجارتي واتكأت على القفص … ولا ادري كيف خطفت السيجارة من يدي .. وأصبحت في يد القرد الذي أطفأها بمهارة .. قشرها والتهمها … كرهت الطاووس جدا … لا يلتفت لشيء … يتجول في قفصه .. وكأن لا احد بجواره ينظر إليه . يمارس غروره حتى وهو سجين القفص .
انجي تهب القرد الموز ويقشره … كنت مستمتعا جدا … بهذا الوضع .
نادت انجيليا هي لنصعد للأعلى … صعدنا إلى الطابق الثاني صافحنا صاحب البيت … وقام أبو نجيب بالتعر يف بنا … محمد صوالحة من الأردن … رحب بنا بحرارة … وكم كنت سعيدا ومضيفنا يمدح الأردن ويسمي لي بعض العائلات الأردنية في محافظتي … وبعض قراها .
استأذن أبا نجيب وغادرنا … مررنا بصيدا .. ومن هناك اتجهنا لليسار .. لتبدأ رحلة جمال مختلفة .
الآن الوضع يختلف … الأشجار أينما نظرت تجدها وقد ظهرت ثمارها مكتملة مكتنزة كنهود الحسان … البيوت التي تتزين بالقرميد كنت اسمعها تنادينا … نتابع مسيرنا في طريقنا لبيت .. الضباب ينفلت من بين أصابع الشجر كما تنفلت الأشياء من ذاكرتي …. لا ادري هذا الطريق المتسامي نحو الأعلى إلى أين يقودنا … إلى هناك .. حيث أعلى الجبل .. ربما هناك نلامس السماء .. منها اقطف نجمة أزين بها صدر أميرتي التي في كل مرة أؤجل لقائي بها .
طريقنا كثير التعرجات … وكأنه يتحايل على المارة .. أو يتحايل على الأرض … هذا الطريق يدعوك لليقظة .. والجمال يدعوك للصمت … وأنا في السيارة كلما راودتني فكرة كتبتها … وكلما شاهدت حسناء كتبت على ورقتي اسما افتراضيا لها … الشاعر الياس القزي … صاحب النكتة الحاضرة … والمزاح الذي يخفف عن رفيقه مضايقات الرطوبة العالية .
يتوقف أبو نجيب فجأة عند استراحة … ظننت إننا توقفنا لأمارس طقس التدخين … وما أن توقفنا حتى شاهدت منظرا رائعا .. يستدرجك لتسكر بالجمال الذي تجسد بكل شيء . المكان هنا اية من ايات الجمال … واد سحيق لا نهاية يصل اليها البصر وقمة لا ادرس ان كانت تحتضن السماء ام السماء تحتضنها .. والاشجار والبيوت كما انها فرق من الجند انتشرت لتحرس الارض من الشياطين المتربصة بهذه الارض .
نعود للخلف قليلا مشيا … نقف أمام قلعة أثرية تسمى قلعة موسى أو قصر موسى … وقد نقش على مدخلها … دخلناها صغارا وخرجنا منها شيبا …
هنا تثور الأسئلة بداخلي … وأولها من هو موسى المقصود .. هل الذي دخل هذه القلعة صغيرا ومنها خرج يملؤه الشيب … هو نبي الله … أما انه شيخ أو سجين … أسئلة تراودني ولا اعرف لمن اتجه بها … يزين المدخل تمثلين لأسدين … ونافورة ماء … التقطنا الصور وتابعنا صعودنا بعد أن امتلأت الرئة بعبق السيجارة … والقهوة التي ما زال مذاقها في فمي إلى اليوم .
نتابع مسيرنا والضباب يتابع شق صدر التراب … والتسلل من بين أصابع الأشجار التي تقف حارسة عليه ليعانق السماء … سماء لبنان وينثر العطر في كل مكان … هل هذا الغيم سيعود للبحر من جديد … أم انه فر من جنون البحر ليعانق هذه السماء ؟ . في لحظة واحدة عادت الروح لجسدي … وسألت انجيليا … الان نحن نصعد لبيت الدين .. ولكن ما اسم المكان الذي اقيم به هذا البيت … قالت نحن في قضاء الشوف .
نصل إلى حيث نريد … وهنا يقف أبو نجيب ليقول … هذا القصر أو هذا البيت بناه الأمير بشير الثاني في القرن التاسع عشر .
الأمير بشير الثاني باني هذا البيت الذي يعتبر من أهم الآثار في جبل لبنان ومنطقة الشوف حكم جبل لبنان ما يزيد عن نصف قرن من الزمان … هذا البيت او هذا القصر يعتبر المقر الصيفي لرئيس الجمهورية اللبنانية … ويقام به مهرجان فني سنوي . واستمر بناء هذا البيت الذي قام على بنائه امهر البنائين اللبنانيين واهم الرسامين والنقاشين الدمشقيين .هذا البيت المكتمل الجمال من حيث تماهي الحجر اللبناني من الخارج وجمال الفسيفساء من الداخل.
تجولنا بمحيط بيت الدين الذي صادف حضورنا حفل زفاف لشابين لا ادري من اي مناطق لبنان اتوا.
التقطنا أيضا الصور … ضحكنا كثيرا … واستمتعنا بالجمال أكثر وأكثر .
عدنا بعد عصر اليوم أدراجنا والصور تتزاحم في المخيلة … والكلمات تتسابق … وفي طريق عودتنا توقفنا عند استراحة … وهبطت انجي لشراء قرص مدمج يحتوي على بعض الأغاني اللبنانية … تأخرت قليلا فهبط الياس ليناديها فتأخر معها … وأنا أتمنى إن يتأخروا أكثر وأكثر … لامتزج بعطر المكان … لأنقش اسمي على اكبر عدد ممكن من جذوع الشجر . وعلى شاهدة قبر هناك … كتبت .. من هنا مر محمد صوالحة … توقف على ضريحك وقرأ الفاتحة على روحك بغض لم ينتبه لدينك او طائفتك .. قرأ الفاتحة وترحم على روحك ومضى … ابو نجيب وانجي ينظران الي من بعيدا ويضحكان على جنوني .. وتابع طريقة … …كتبت بعداسمي ليتني كنت طيرا لابني عشي هنا . …
وعلى جذع شجرة اخرى … كتبت اسمي .. واعتذرت من الشجرة ان اوجعها نقشي على جذعها.
عدنا… للبيت والليل قد أرخى سدوله … وأشعلت الشوارع إنارتها … والصبايا يتمايلن كضوء القمر فوق الموج .عدنا … والسوأل يجلد روحي اي جمال تفرد به الشوف … وأي فن رسم هذا المكان .. وفي اي لحظات التجلي كانت السماء وهي تضع الشوف سحرا يزيغ ابصار الناظرين اليه او المارين به ؟.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!