الى مصر ( إلى أم الدنيا ) “3” في الطريق للقاهرة

بقلم : محمد صوالحة 

غادرنا ميناء نويبع، ما زال البحر يواجهني، ولكني هذه المرة وأنا على اليابسة ، أهذا الذي كنت قبل قليل أمتطي صهوته ، هذا الذي يفصل بين حاضرة الأنباط وبين أرض النضال والتضحية، أهذا الذي وصفته فاطمة بصاحب الحب الأسطوري ، والآن تأكدت من ذلك وأنا أرى الأمواج تتراكض خلف بعضها البعض حتى الشاطئ، فتتكسر هناك لتعاود الكرة المرة تلو المرة .

يا إلهي ما أجمل هذا الكبير ؟ أهذا هو الماء الذي حمل عرش الرحمن ذات وقت ؟ أهذا هو الذي كان منه كل شيء حي ؟  أهذا هو الطاهر دائماً ولا يدنس ؟ أهذا الذي كانت الباخرة التي أقلتنا قد أعملت مشرطها في صدره ؟ يا لاحتمال البحر وصبره ، آه ما أعظم الحب الذي يسكنه ويعمر قلبه ، أليس هو الذي عبرت فاطمة عن حبها له وإعجابها بقدرته على العطاء، وتمنتْ على البشر أن يتحلوا بما يتحلى به .

وما أن توسطنا مدينة السويس حتى برقت الذاكرة وراحت تسح أمطارها ، إنها المدينة التي أصرت أن تأخذ بثأر أبنائها ، وأن لا يذهب دم شهدائها، الذين زاد تعدادهم عن مئة وعشرين ألف شهيد من مصر الكنانة؛ ارتقوا سلم الخلود وهم يحفرون قناتها ، إنها المدينة التي وقفت في وجه التحدي الظالم والعدوان الثلاثي الغاشم، الذي شنته انجلترا وفرنسا وإسرائيل في العام 1956 .

وتذكرت حديث أبي ذات ليلة كيف قام الأهالي بصد العدوان الذي شنته قوى الظلم والطغيان على مصر، التي كان يقودها الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر لتثنيها عن قرارها الجريء بتأميم القناة، قال أبي وهو يسترجع تلك الأيام:  يابني في ذلك العام  لم يقاتل الجيش المصري لوحده ، بل انتفض الشعب وثارت المدينة على قوى الاستبداد والاستعمار شيبها وشبابها ، نسائها وأطفالها، كانوا يقاتلون  بالعصي والحجارة، كانوا يقاتلون ، كانوا يقفون وراء الزعيم عبد الناصر، وكان النصر حليفهم ، وكان لإرادتهم أن تنتصر ، وخاب العدوان وعاد يجر أذيال الخيبة والخسارة .

في هذه المعركة تجلت النخوة العربية من خلال الفتى البطل القومي الهوى، السوري الهوية جول جمّال، والذي قصف وزملائه إحدى حاملات الطائرات حتى أغرقها؛ ليخبر العالم بأسره أن الأرض والانتماء لقدسيتها  هي من تجمعنا،  وإن اختلفت طوائفنا وأدياننا.

أي شعب هذا الذي يقاتل بإيمانه ولا شيء غير الإيمان ولا ينتصر، ألم تسمع يا بني بقوله تعالى : “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم” ، إنها الأرض عندما تثور، إنه الإنسان عندما تتحرك فيه الكرامة ويحرضه الكبرياء .

إلى أين نحن ذاهبون يا أبا سليمان ، إلى القاهرة يا محمد ، سنصلها في حوالي الثامنة مساءً.

آآآه يا أبا سليمان كم أنا متعب ، إلى أي فندق أنزلني ،  أريد أن القي بجثتي وأنام.

-” ليه الندالة دي “.

– ما بك يا أبا سليمان؟

بيت أخيك موجود وتذهب إلى الفندق، أي بداوة هذه التي تتحدث عنها يا لوتس ودوماً تفاخر بها، أهكذا علمتك بداوتك .

-أبو سليمان: أنا لا أقصد أبداً ما فهمته ولكن…

-“لكن إيه” ؟ لا شيء مما تقول سيحدث؛ فكما تقولون في الأردن وهو أهم ما تعلمته عندكم أن الضيف إن أقبل أمير وإن جلس أسير وإن رحل شاعر،  وأنت الآن أسيري .

نشعل سجائرنا والسيارة تبتلع الطريق التي لا أكاد أراها  من هول السرعة، ولم أكن أنظر لشيء أو أفكر بشيء إلا باللحظة التي أصبح فيها ضيف الفراش وأسير النوم .
***********
 من كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!