بسكرة عروس البوح وتبوح فعلا بقلم :د .عامر شارف( بسكرة- الجزائر )

بسكرة هذه المدينة التي سمّوها بأسماء مختلفة عبر التاريخ ، وهي دلالة على قدمها، وعلى أهميتها، من هذه الأسماء: فيسكيرا ” vescore ” الرومانية ، بمعنى المحطة التجارية ، وأدبيسينام adpicimam، نسبة إلى المنبع المعدني  حمام الصالحين، وفيسيرا ، وهناك من يرى أن التسمية عربية وقع فيها دمج لإسم قريتين قديمتين في المنطقة هما “بــــسة” و”كـــــرة” ، وأمّا زهير الزاهري يرى أصل الاسم نسبة إلى حلاوة تمورها وعذوبة مياهها، وكما تمتّعت بكنايات عديدة رددتها ألسنة الشعوب التي سكنتها متأصّلة، أو ردّدها المُهَاجِرون أو المُهَجَّرُون إليها ، أو المارُّون من الحجاج أو التجّار، ومن هذه الكنايات : عروس الزيبان ، أميرة الزيبان، بوابة الصحراء، سُكَّرَة …، أنجبت بسكرة من يؤرخ لها من أبنائها وبناتها باللون، وبالحرف، فتهجدوا بالشعر والنثر، وتهاطل بوحُهم عشقا ووَلَهًا، وبادروا إكراما لها بأجناس أدبية متعددة محمّلة بجمالية، ونصوص مميزة تثير رغبة القراءة، وشهية الاطّلاع، وقد أنشدوا القصائد العصموات بالفصحى وبالدارجة، وقصص متنوعة إنسانية اجتماعية، ونصوص ، وخواطر ، وتداعيات، يعوَّل عليها في تاريخ بسكرة الأدبي، وتستحق الإشادة بها .
بسكرة عروس البوح : بدءًا بفاكهة البوح فاكية.صباحي في ” يقظى الشجون “بدأت مرتّلةً بعضي رماد وبعضٌ لم يزل مطرًا ” تبوح بين اليأس والتفاؤل،، ويركب بوبكر رواغة المفاجآت تحت ” ظلِّ النخلة وحده بشقائق نعمانه في “حارة المصلى” بين الهايكو والأخرى يلتمس الدلالات ميتالغوية،، وتحت هذ الظل في تعلن سامية غمري حزنها وتناديه” يا منهمرًا” إني وإياك مع الأيام شرقُ وفي شأن هذا التأوّه يتجلَّى البوحُ ، بينما تلوّح سامية بن عيسى بمنديلها الأخضر تغنِّي “الأمل” ربما يتحقق يومًا في نصها ” من بركات التفاؤل”،، وتخرج من صفحات بياض سعاد بن عيسى مردِّدة “اشتقت إليك فعلمني أن لا أشتاق” بصوت أنثى ، مرددةً ما قاله نزار قباني لأنثى مثلها، فقد صبّت الوهج على الذات ومضت بعيدًا تاركة أياه كعادتها،، وتطلع من صمتها نجمة.خمار بغنجية الكلم، ” كالندى على خدود الروح” وتبني عشًّا في جيوب الورد لحمامات ” قداشة “،، ويقف من واحاتها بصيص.قويدر يرتل ما تبقى من عمره في سردية “الكساء الأخير منشدًا ” أنا حقا مغرم بلباسي الجديد كطفل نازح يتوق لاحتضان تراب الوطن” ، وهو يجري خلف الطفولة والحلم، والآتي الذي يتوحّد بطموح مَن مثله،، ومن نصب السفر العادي تغرّد حورية آيت إيزم معلنة أنها “راحلة” مرتدية أحلى ذكرياتها مع نسمات الفجر، وقد أبصمت أسًى ووشومًا،، ويأخذ بعدها علي علوي سلطة الكلمات في ” سافر بلا هدف” حتى لا يقف في المنتصف وحيدأ، وحتى لا يضيق به “الكورس” تحفة بسكرة الغربية، وهو يعانق الضياع والتمرّد والدمار، والسراب، لكن لكي يرسم دستوره للحياة برغم العراقيل والعثرات،، ومن ثمة تشدنا فطيمة حويمي إلى حكاية ” دُلَيفنة صغيرة” وماذا جرى لها حين عصت أمها، محملة بموعظة كبيرة، ودرس مهم في الحياة،، ومن على أورسية المشهد بلغته الدّارجة يصرخ خالد غيبوب في رائيته “نوفمبر” بمطلع حواري “نوفمبر جيتنا باش تبشرْ/ تفسر ذاالجيل تحكي واش صاير” ، رافعا بيانه، واصفا ثورة الآباء، وجهدهم وتضحياتهم،، ويعود بنا حسان بلعبيدي إلى “نسطالجيا ” العمر بجهنمية المعنى، وأفق الدلالات لقراءات مؤجلة، مثلما في قوله ” نام الليل في حجر الشمس”، ويستمر في تشكيلها/همس الآتي في أذن الأمس/أحنا البداية والقفلة” ،، إلى أن تحكي زينب حوّاس ما تيسّر مِن” أسطورة العشق المُحَرم” فاسترسلت في سردية المحكَى، وتفاصيل الشخصيات واستقطابها لتشكيل بنية المنجز الحكائي، وتُشهِد المكان ليطمئن المتلقي،، ويتسامى الفيروزي متغزلا كعادته منذ الصغر، والفضل لفيروز مناجيا إياها في حضرة الغياب، والتسابيح” ليستْ حتما كما وصفها الأنبياء” ويتمادى في وصفها ” طلعُها سدرة المنتهى ” و “تمرُها العنبُ الطولقيُّ ” ويطمئن فيروزته ” ليس شَعرُك هذا الذي يستوي والرياح” ، ويتيه في تغزّله ولا ينتهي به التيهان في فاتنة طولقة ،، ويمتطي أنورزير المنصة بنصه ” أهازيج حلم” بفردانية التشكيل ” والوصال دهشة .. حكاية شقيّ يلاحق سهمَ الطّموح الفارِّ من قوس الماضي” وقد راحَ يُرتَّب فيه ما تجلَّى من معنى الموصد في هتاف الهدهد الذي يملأ عقول المكان المهجور بأهازيج، ودلالات تمارس حنينها على حناجر الفصول، لتتقدم صاحبة الفضل لجمْع شتات البوح الأديبة مونية لخذاري، تسرُّ إلينا بعرجون المحبة ” همسي بين زهرتي..وعطرك” بصوفية ابن عربي ” أتوضأ من أنفاسك/أصلّي بعشقي فيك ولك/ جسدي قِبلَةُ حبٍّ تحدّدُها بوصلة جنونكَ بِي/ وفّرت فضاءً” مشحونا بالتوهج والصوفية لامتطاء خطيئة حواء، وبراءتها كبراءة الذئب من قميص يوسف، وغنَّت بمقام رابعة العدوية “يدي بين أضلع أصابعه/ ينسكب ببطءٍ/ في ظلِّي/ يعانقُ الغياب” شهقات روحية تنفلت من عمق العشق على طاولة الصوفية،، ونتكئ على موعد آخر مع شيماء نعومي صاحبة خطاب ” إلى من أسمِّيه السكَّر” يتعالى صهيل البوح، وتناهيد الاشتياق ، يفيض الشعر، وتركض القوافي الرائية مزلزلة وعي المعنى كسُجّاد تركيٍّ لا يحدِّد أبجدية الأمداء أثناء السجود،، وتلك جميلة حسونة بعنوان”هي الأخرى” تلتحق بكوكبة التنصيص ” طوَّحها غضبٌ جارفٌ كجموع الريح وانفعالات المطر ” تفصح عن تأوهات الفؤاد، وعن تأجج الشوق في الذات المتألِّمة،، ونبقى نعانق مشاهد روحية لطيفة حرباوي، ومنها لوحة الحزن والأسى في أقانيم ” اليتامى” اليتامى أنانيون/ لا يتبرعون بحزنهم/ ونيابة عنهم قامت من باب الضرب العتيق ، توزّع سلال البوح الشاقي على قارئيها عبر مشارق ومغارب الإنصات، وعلى المتنافسين على ركح التّألّم والتناهيد،، وننحو إلى فاصل آخر به “طقس هادئ “مع عبد القادر.صيد من فيضه الجميل في أقاصي الصحارى، وبفلسفته المعهودة يردّد: ” أنا هنا تحت جلدي، وما خارج جلدي فليس لي، وليس مني،” وكلُّ جُملِهِ معبرة عن عواطف الآخرين وشعورهم، وهكذا يمرّر صور كتاباته المتوجعة، الموسومة بالمفاجآت والكنايات بمنتهى الشفافية،، ومن بعده تضع دليلة .مكسح.”حدود صامتة ” لجغرافية تتحدث فيها عن مشاهد ذكريات، حين كانت تركض مع مسافات العمر، وهي تنسج للعنادل أعشاشا موسمية تنتظر محافل الأفراح، وتعانق حرية الطفولة، وهي تُكبِّرُ تكبُر مع الأحلام يوما بعد يوم، إلى أن ارتشفت دمها بين الحدود الزمنية ، نظرا لتغير ملامحها، وافتقاد المكان والزمن المأمولين، ولازمها ارتداء حلة الشقاء،، ومن ذاك المكان يجهش عاشور بوضياف شعرا ما حبره جرير في لوحة ” عيناك” مخاطبا إياها “وتزيّنِي عند المرايا علَّني ألقى خيالا منكِ فيَّ جميلا/ يا سكّرَ الكلمات حينَ أُذيبُها شفةً على شفةٍ تفيضُ أسيلا،/ من أقاصي مدينة “سيدي خالد” تحت ظلال الوجد يسائل نبض المرسم  : (عيناك )/” فَرَسَانِ تنطلقان من أقصى الحنينِ لتشعلَ القلبَ اليبابَ صهيلا،/” وهكذا يتصبّب الهديل شهدًا من شفتيه على حُرمات الكلام، ورسولا إليها يفصح عن سحرها المستعير،، غير أن فاطمة عشور في نصها “عناق الروح” ترتّل يقينا عذاب غربتها وآيات الحزن، تسترسل بيانها من سقط يبابها، وتخيط بالمعاني جراحات القلوب، وتلجم ركض الكلام، كأنها تتأمّل الصورة القادمة،، ونفتح صفحة معلِّم الأجيال أحمد جلال  تتهاطل عناقيد من دروس وعراجين عِبَر من على منبر النضج والوقار، يقف ناصحا ومرشدا في أرجوزته المتفرِّدة في متن هذا المؤلَّف ،، ونلتقي مع معلِّم الأجيال أيضا شيخنا جمال الدين خنفري في مجموعة قصصه ” أصداء وظلال” تلك القصص القصيرة المحملة بالعبر، من مواصفاتها اقتصاد الجملة واختصار النص، وشعرية النبض في مثل ” طار غرابُهُ، في قلبِهِ امرأةٌ قصيدة تتسكّعُ، أجّجت إيقاعَ الأنفة في نفسها، علَّقتْ بين أضلعه جرسَ البوح “، سطَّر بأسلوبه المترادفات لقراءات مؤجلة، وهنا الرسم والتشكيل، ومن الحظ الواسع أن تكون نظرية التَّلقِّي حاضرة، وتتجلى فجوات التأويل،، ويحضر بشير جنان بوطنية تفيض حبًّا وإجلالا للوطن،” في اللوح قد كتبتُ” في مقطعين، الأول مدحا للأنا معبرا عن أنا كل جزائري، والثاني يصف فيه الجزائر الحبيبة ” هي البديعة إن جئتَ ترسمها  أقلامك خشعتْ من حسنها سجدتْ” ، وتتسامى توقيعات وطنية تعلن الانتماء،، ويسترسل محمد عادل.مغناجي يناجي البحر، متسائلا متخذا من البحر رمزا وفيرا، يسدّ رمق السرد الشعري، وينهل من إيحائيته منعرجات، لكن الدلالات كشفت عن عمقها في معاني الأبيات الأخيرة، حاضرة بذكرياتها في حضن والده مرتلا آيات الاعتراف والتقديس والاشتياق،، ويبقى البوح مستفيضًا مع بنات حواء متواصلا في مشهد ” مهاجرة ” حيث حاولتْ منال حمدي وضعَ قناعٍ لدلالة الهجرة من بلد إلى بلدٍ، لكنها في الأخير تعلن موضِّحة ” لقد قررتُ هجرَ الأماكن التي تركت ذكرى أبكتني وجرحتني، هجرتي هجرة مختلفة فلن أترك أرضي وأحلامي الجميلة” تنشد لعنة الغربة ” ،، وكما نعلم في تاريخ العرب، لكل امرأة في بلدي عاشقٌ يترنَّم بسحر جمالها، ويذكرها مكناة، وقد جاءت كناية ” شهلاء ” هكذا في نص محمد مرزوقي يجلجل قصيدته بقافيتها المنصوبة، يوزّع إيقاعها الخفيف من بحر الكامل، واصفا شهلاءَه/ ” هي بحرٌ حبٍّ قد تلاطمَ موجُهُ/ لا ترتضي فيهِ سواكَ غريقَهَا،/ ويتم وصف أوصافها ” سلطانة في كَفِّهَا أمرُ الهوَى/ أو لم تكنْ عبدًا لهَا وعتيقَهَا ، ليكتمل متن ” بسكرة عروس البوح” نحاول اقتحام نص ” التَّوحّش” مع سعاد سحنون كثرت فيه فجوات إيزر، واتّسع أفق التوقعات على رواية ياوس، وانسحبنا نحو نص آخر لــ خديجة حسين تلي وقد راحت تنشدنا ” أصبر وصابر” تنشر الحكمة والشعريّة، ترسم بعفوية بين البيت والبيت رباطا حريريًّا يخيط ثوب الحكمة والمسافات الجمالية في أبياتها : ” فاطْوِ الهوى طيَّ من لا يحفلنَّ بهِ/ واصبرْ وصابرْ وقلْ يا ربّيَ المدَدُ / إنَّ المُحبَّ كنبضِ القلبِ مقتربٌ / ليسَ المُحبُّ الذي ينأَى ويبتعِدُ، وتنهي في حكمتها : يا صاح فاخترْ فؤادًا حينَ تسكُنُهُ .. يحويكَ حبًّا ويبقَى العُمْرَ يجتهدُ ” للحفاظ على الحبّ والوفاء والتقدير،، وتغرِّدُ ابنة الفيض لمياء فريّح بـ ” ومضات المساء” في عزفها قائلة :” تغرّدُ بلابل تحت أوراقي / وتنثر سنابك العشقِ صبا…في داخلي ألمٌ بقرب السماء” أو بحجم الكون، ” لا زلتُ أذكرُ فيك طفولتي / وعمق الصحراء/ لا زلتُ أذكر بسمة ربيعي / ولحن الشعراء، بهذا الاعتراف الجميل لعروس البوح،، ويتعتب لخضر رحموني، سيدُ العصماوات، ومرتجلُ شعر المناسبات، وصاحب خزانة الأداب، وسجل أخبار الأدباء والمثقفين، مسجّلا بصمته بقصيدة مرثية موسومة بـ ” دمعة ووفاء” يرثي عبرها عميد الفن، وأستاذ العود الراحل الموسيقار عبد الحكيم نوبلي، مردّدًا: ” إنّي عهدتُكَ في المحافل عازفًا/ تشدُو كـ (زرياب) هوى الصحراء” أودع الشاعر الحزن والتّأسي في رثائيته الهمزية، أخرج كلّ تناهيد الوجع، من خلال اختيار كلمات معبّرة خطَّها أحرفا وجملا ودلالات على أوراقٍ بريئة تكاد تنفجر باكيةً من حرقة الوجع ، وتوقيعات قلب جريح،، ونستلطف مع الأستاذ الإعلامي أحمد خوجة تأمّلاته، في نص” القسمة”  تأملات العاقل الحكيم المطمئن بلغة بسيطة وبأسلوب راق، يصف عالمي الحياة البشرية منهم من يطربون بتغريد الشحارير، وبأضواء المراقص الخافتة.. ومنهم من يحزنون بنعيق الغربان على أرماس اليتامى” ،، ولا يهدأ له بال حين يتسلق علي مغازي نخلة التضادات الدلالية في نص ” لا تزال الحياة في الأزرق ” وبين لا تزال وما تزال ، ودلالات اللون الأزرق، ينشر زورقه الصغير كي يحمل معه صحراء الكون، منشدا: ” كل برعم يقتلع الريحَ من الجذور/ هل لماءٍ أن يمتلئَ بدلو ؟؟! / هل لثمرةٍ أن تتلذَّذ بآكلها ؟!، يلوي عنق التراكيب ودلالاتها ، يرسم واقع المترائي له بالمقلوب، كما ترى المرآةُ نفسَها في وجهِهِ، وكأننا نصطدم بعبثية المعنى، واستفزاز اللغة في ذاتها، وكتابة اللامعقلن، متأثرا بموازين الحياة المتقلِّبة،، ولكن نطمئنُّ من جهة أخرى  إلى إعلان ” من دواعي فراري” لـ فاطمة حفيظ، تصوّر جزءًا من تعاسة الإنسان، تستند إلى مشاهد اجتماعية إنسانية، من شخصيات مختلفة، تملأ العالم أنينًا، فتحسّها تحمل على أكتافها تعاسة الكون، ومواجع العالم، وفواجع الكائنات الحيّة، وتمثل من المتغطرسين في صور بشرية، وفي الأخير لتحقق مستوى أدبي وتاريخي في مشهد الكتابة الأدبية من متن” بسكرة عروس البوح “،، ليجيء بعدها عامر شارف، مصورا نعت البلابل بآيات السحر في قصيدته التائية، كتسبيحة، وكترتيلة، وكنوافل، وكتوشيح ، وكسرج المعارج ، وبين ” أمداء رمان تهاجر في دمي”، كل هذه الكنايات لصاحبة نعت البلابل، لينهي النّصّ” بكتاب تشبيبي سيحتفل الورى يومًا إذا ما لامسوا جمراتي” ،، ليتسامى” كريم أبو حطب” متفاخرا بكوفيته الفلسطينية التي هي دليل قاطع، وعلامة سيميائية دالة على انتمائه،” منقوش على قلبي عشقٌ أبديٌّ لبلادي،/ منذ ولادتي مرفوع الرأس نظرة عيني كافية / لتبثَّ الرُّعبَ في أعدائي / يستصغر الحياة، ولا يعطيها أهمية، وتكبر الأنا الفلسطينية قائلا: ” نعلم أن بين الجوع والموت مسافة إصبع / لكننا نموت من الجوع ولا نخضع ” وهو يصوّر الحال العربي المهزوم، ويصوّر القدرة والإرادة التي لا تُهزم، وفي أحضانها تخلد القدسية،، أمّا توفيق ومان في قصيدة السماح هنا تبدو صورة التحدّي، وبرغم التوتر العصبي، وعتمة الغضب، لكن في آخر المطلع ينتهي إلى العفو الإنساني، وهذا من الطبيعي، في البشرية الطيبة، لا بد من التسامح؛ الدال على أن المسامحَ كريمٌ عظيمٌ بوعيه وبأخلاقِهِ، وإنسانيّتِهِ في هذا الوجود، فلفظة السْمَاح من الجانب اللغوي  مفردةً، ومعرّفةً، لأن قيمَتَهَا في العنوان مقصودةٌ، ومعيّنةٌ، لفئة خاصة، تلك الفئة التي أساءت إلى الشاعر، وقد كانت ضده، ولهذا ترددت الكلمة لتأنيب الجماعة المقصودة،، بينما تستنجد الشيماء شعبي بتساؤلات “مالي” المكررة ومناداة يا المكررة أيضا، حاولت تصوير موارد الزمن السلبي بين الفرح والحزن، وبين الجمال والخيانة، وآلاف القصائد الغزلية، تبقى الأم الموطن الوحيد، ولو ملأ الشعر خافقة الإنسان، ولعله هو صوت القصيد،، ويبدو الخلاف واضحا بينها وبين ” بثينة حميدية ” المتشظية حزنا وَلَهَبًا، وغَضَبًا وهذيانًا، في نص ” حديث الأنا” تختزل الدهر في الزمن السلبي، تعانق عملية التعرية الذاتية ” أشعلتُ داخلي “، وينتصر البوح الساكن الأسود المشنوق بحبل التشاؤم، على الموعد الشاعري في نص حاول أن يكتمل عمقًا، وكتبت له أن ينتهي بهذه النثرية،، ونلتقي مع نبيل الحق في ميمية بعنوان ” دموع عنترية” في موشحات صوفية، ودموع عنتر دلالات تحمل ثقل الحياة من تألّم وأسى، وهو يحاول كشف الواقع، وكشف الذات لمشاركتنا أياه، وقد حسم الأمر في البيت الأخير،، وبعدها نرصد نصًّا آخر لـــ عمراوي زينب ” الموسوم بــ”عتاب” وهو عبارة عن رسائل مختارة ومختلفة، بلغة الغياب، والتساؤل ” فإن غاب عنك يومًا / فهل أنت بعد الغياب تلقاهُ ؟/ فاغنم بحبٍّ أنت مالكُهُ / فحينما يأتي المغيب…لن تشرق شمسُ لقياك “، فلم تلجأ  صاحبة النص إلى احتمالية ما يكون، حيث بلغة تقريرية نسجت موقفها، وانصرفت عن  نسج الفجوات الشعرية ، وانتهت المؤشرات في تأسيس الموقف”  لن تشرق شمسُ لقياك “،، وقاب قوسين أو أدنى،، ومن حظنا نلتقي مع محمد بوطي في نصه ” طفل البرية” يستهلُّ نصه: ” أرتّبُ الظل لقيلولة مباغتة/ خبرتُ مشاتل الضوء/ أدغال الضوضاء” يعبّر عن  قوَّته، ومعرفته من خلال تجربته، عبر تشكيل حركي لفعلي : ” أرتّبّ “، و” خبرتُ ” أجّج توقيعاته لبدء استرسال وصف الأنا كبوذي بتهافت الصوفي، ويبرز معاشرأ الوجع الكوني،، وعلى شاكلة النص السابق نَطمئنُّ إلى” فضيلة زمّيط ” استجمعت قوى البوح في لغة شعرية ” غرقتُ في سفن الحيرة حتى الازدحام ../ لبستُ الكبرياء كمن تلبسُ ثوب الزفاف / يوم الحفل شريدة البال / مع زخات المطر أمام نافذة العبارات / يبدأ النص بالقدرة المعبرة عن بناء الذات بعد الغرق، لبناء مشروع الحلم ، ولذلك احتفل المقطع بالكبرياء، وثوب الزفاف، ويوم الحفل، وزخات المطر، والناقذة ، وكلّها دالة على مقاومة نكبات الحياة الاجتماعية والسياسية ، ومنعرجاتها من اليمين إلى الشمال ،، أمّا “عروسي هند” ، يبدو في نصّها” في قفص الحمام ” عنوانٌ كما يقول المثل مشمرٌ عن ساقيه، محمَّلاً بالأحزان والمآسى، تصوّر بؤر الصراع الإنساني الداخلي والخارجي، صور القهر والاضطهاد، تستغل من فضاء الرمز ما يلائم دائرة الإحساس، بلغة عادية  بتراكيبها ومعانيها ” كأني حمامة بيضاء جميلة / داخل قفص من ذهب/، وينتهي النص بالألم الإنساني الكبير، والشقاء ،، ويعزف لنا ” عبد الحميد مشكوري” في نصه بين الروح وصاحبها، وبمقارنة بين ذي وذاك يكتمل النص، بين الإشادة والمقابلات، بحيث يقتصد الاستنصاص، ويحاول تشفير البوح في النباتي( زهرة /أقحوانة/ وسط الحقول/ نامت على شجر التفاح)، و( من سيدات الكون / لن يمسسها بشر) ، النص مطوَّقٌ بفهرسة وببشارة الطبيعة، ومشحونٌ باسترداد الحضور بطعم الحياة والتقديس أحيانا، وبالحلم المجنون وحبّ الشهوات أحيانا، وبالملاك الطاهر وزلال الغواية أحيانا أخرى، وينتهي النص بالتوبة والاستغفار،، ومع بوح الشعر الشعبي في قصيددة “راحة الروح” لــ ” أحمد شوقي نوار خرخاش متغزّلا مخاطبا حبيبته بعد غياب طويل :
يا من كـــنتِ راحة الـــروح وراحي      كـــــــنتِ كــــــاس مــعــتقــــــة لـــــــيّا بغرام
كـــــنتِ نشــــــوة ماليــــــّا كـــلْ قداحِي      من عينيك الحب سايل نعت مْدامْ
كــــنتِ ليّا بسمتي ، كـــــــلّ فراحي      كنتِ وحــــدك رافــــعـــــة للـــــحب عْلامْ
عدَّد الشاعر مواصفات حبيبته التي كانت كالشمس، كالقمر، كالنجمة، وكانت وكانت.. لكنها اليوم تنسى، وتتخلَّى عنه، أكانت متعمِّدة، أو مرغَمة مثل كثير من النساء في مجتمعنا العربي الإسلامي، ويظل فقدان الأحبة قصيدة تُجبِرُنا على الإنصات ، والبوح دواء لعليل الفقد والهجران، وهنا تكمن المعادلة الصعبة التي يعيشها الشعراء في البوح ولحظة الكتابة،، ويطلع من زريبة الواد “عبد المالك محمودي” عاشق أرض الوطن، الجندي الغائر يتلو حبّه ومشاعره، وصل به حب الوطن إلى الولَه، يصفها : ” أرض الخير من شاو زمان/ نخلة نايضة من جوف ترابي / فباتت قصيدته من الأدب الشعبي، ونكهة لحديث السمر، ورواية شعرية: ” محضية ما بين غنَّمِيَّة وريَّان/ حكاية عز نرويها لصحابي/” ، وهكذا حب زريبة الخاص بزريبة الواد ومعبرا بصورة عامة عن حب الجزائر، هذا الحبُّ يصبح مروية على شفاه الأجيال وقطعة من قداسة في قلوبهم،، وفي حالة ” غفوة ” نعانق نص “عادل شتوح ” مسترسلا في بوحه وتواجده مع زليخته، محملا بصبابته، محترقا بوهج صبابته الأبدية،” بغير زليختي إنّي / غريق والهوى طافي ” وفي حالة وجدانية ، كأنه الحلاج : ” أدسُّ ركام أشرعتي / وأبحُرُ دون مجداف / أقدُّ الموتّ من قُبُل / فيغدُو الموتُ طوَّافي /”، وتعدُّ له منبع الحياة “إذا مائي غدا غورًا/ فمنه المنهل الصافي/ مترجلا بصوفية غامرة، حيث يتواصل استرسال لغوي، وإيقاعي خليلي في مشهد شاهد على حضور أنفاس أحد الصوفية يترنم في وجدانيته،، بينما تجيء” مايسة بوزيان ” تسائل البحر عن صبره وسعة صدره :” كيف تكون الأعاصير في جوف ظلامك مدًّا وجزرًا” ، وعن برودة أعصابه: ” كيف يكون الغضبُ زبدًا ؟؟” وعن سلطان حكمته : ” بربّك أخبرني كيف تسامحُ السفنَ / وهي تشقُّ صدرَكَ إلى نصفين ؟ “، فهذه أسئلة ومثلها تعيشها في غمرة الحياة، وقد استقت من الرمزية ما يزلزل المعنى، وهي تعدُّها محرِّكا لنصِّها، ومنبعًا لحركات متواشجة، ولحديث ذي شجون،، وتفتح إيمان يعقوب نافذةً على مجموعة من الأحداث والأحاديث في نص “توأم روحي “، استبقت الأحداث الجميلة، والذكريات التي عاشتها مع أختها من مرارتها وحلاوتها من دون أن تأخذ الموعظة، لتكتسف مجريات العيش بعد حين، وتدرك قيمة الدنيا، لكن في الأخير بعد أن فقدت توأم روحها قرأت مشهد الحياة حرفًا حرفًا، وأدركتها أنها أقلّ من جناح بعوظة، وينتهي النص بعدم العثور على الغاية الإنسانية، وهي تودّع توأم روحها إلى دار الخلود، وهذه الأخيرة رحلت ” وتلاشت أمنيات توأم روحي وهي تنتظر أن يغازلها قلبُ فتَى “،، وهنا يقف محمد نجيب صولة مترجمًا مشهد الحياة كأنها ” صفائح الثلج” وهو نص يحمل من رمزية موردا هامًّا، ورؤيا عميقة لمسرحية الدنيا بسعادتها وتعاستها ” كانت تذوب سيلا/ جرّاء ما تحمله من تعب/ وما يقاسيه القلبُ الدفينُ / في دهاليز العمر/ ” ليكشف مسافات عمر، والصراعات المتكررة، ويبين قوّة القهر والاضطهاد في جملة مُعادِلة للتعبير بوضوح في قوله:” من بلاد الأنين جيء بها /إلى قصر الحرمان الغاضب” فيه رسم لثقَل الحياة،، ومن هنا يتحمّل السؤالَ نورُ الدين عباس، في نصه ” ماذا أنا ” ينهال بأسئلة تستعصي على الإجابة أحيانا، ويدهش باستفسارات مفاجئة، وبتصورات لا معقلنة، حاول استقصاء العالم بعيدا عن البديهيات، غارفا في فلسفته ” بتمعن اكتشفت في نفسي ما لم اكتشفه وأنا في حالتي الطبيعية التي كان عليها أن تعرّفني عليّ أكثر” يتساءل بينه وبين الأنا وبين أخيه التوأم الذي مثله إلى حد في حياته،، وما زلنا في مهاد الأسئلة ” بماذا نجيب ؟” ومع صاحبة النص ” بن زطة حبارة” ، التي أخذتها شدة الإعجاب إلى إعادة قصيدة الشاعر الكبير نزار قباني معنى ودلالة التي يقول فيها :
” ماذا أقول له لو جاء يسألني.. إن كنت أكرهه أو كنت أهواه؟
ماذا أقول ، إذا راحت أصابعه تلملم الليل عن شعري وترعاه؟
وكيف أسمح أن يدنو بمقعده؟ وأن تنام على خصري ذراعاه؟ ”
ومن حدائق الشعر حضر ” عز الدين خشعي ” متحدثا عن شعره ومعانقته ، وما جرى له مع العروض ، ومع النحو لحظة كتابة القصيدة، وهو يسردها في أبيات شعرية من بحر الكامل، وهو يعبّر عن المواجع والهوى مستعينا بشيطان الشعر كما كانت تقول العرب في وادي عبقر مثل كل الشعراء، ويحطُّ الرحال في متن “بسكرة عروس البوح”  “محمد الكامل بن زيد ” في هذا المتن البسكري بنصه ” عصا موسى أو ” رأس الأفعى المامبا السوداء ” حيث يقف بطله على التفرد في وسط القبيلة، والتميز عن أفراد عائلته، وما ينتج عنه من فتنة، وما يعيشه الفرد ولو يكون صاحبَ قوَّة، وأهلَ بطولة، فها هي خاتمته ” لم ألتفت خلفي وأنا أغادر البلدة ليلا مستترا برداء إحدى نعجاتي…فأنا أفرّ من قضاء الله إلى قضاء الله.. فما سمعته خلفي يهز عرش الرحمان”… هي خاتمة اعتراف، بالإضافة إلى ما تَحمَّلَهُ شيخ القبيلة ،، وإلى نص آخر ” لؤلؤة ناعمة ” قدمته “كلثوم خرخاشي” تصف بطلة طاهرة كالياقوت ” عشرينية، كانت تعيش كما أقرَّت طبيعة الطيبين، لكن الواقع البشري متغير من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، ولما قرأت صفحات الحياة، لم تعد ” تبحث إلا عن سعادة داخلية وراحة ومكانًا طاهرًا بعيد عن خبث ونجاسة البشر ” فهي لؤلؤة ناعمة ولكن .. ،، لكن عندما تتساءل “غريبة بخلاف ” في نصها الموسوم ” عهد الأنثى” حيث ترى أن كل الأشياء التي من طبعنا ومن حقنا أن نرى فيها الذكورة تأنّثت، كما قالت العرب قديمًا ( استنوق الجمل) ، وقد استرجلت الأنثى في كل المجالات، حتى أن الرجل اشتاق إلى أنثى، موضوع هامأ، لكن ماذا سنغيّر في الواقع المعيش ؟ ،، ونحن نرتّل نصًّا طويلا لــ ” عبد الرزاق خمولي ” الموسوم بــ ” رقص تحت زخّات المطر ” بمطلع باذخ ” مطرٌ في قوام قصيدة../جسدٌ تبلّلُهُ تسابيحُ غيثِ هوايةٍ../ وغواية.. / تراتيلُ رذاذ../ في نشوة سكر القصيدة ..في انتحار الحبر.” يسجل فيه مسارات ودروب الحب وأنشودة الغواية، ويؤرّخ مسافات النصب وأهازيج التعاسة، ويحكي تعبه الأبدي بين نار المشقّة والوجد، ويروي عن الحزن والألم، وما عاناه من مواجع وفواجع، مستندًا إلى شجرة الكلم، يتصيّد الزمن لحظةً لحظةً منذ الطفولة إلى أصبح شاعرًا يملأ عرض الأرض، ويفوق السماء طولا،، عفوًا قد لا يكون المكان والزمن حقيقين في نص ” يونس عبد الحفظ (باديس)”، الذي يحيلنا إلى نص بعنوان ” في سدرة المنتهى” المخضب بشتى ألوان الطبيعة، ويجعلنا نعانق ملكوت الفرح المنتظر، ونتساقى عبقًا ثجّاجًا/ والألق/ والنزق الوهّاج على مشارف “المخادمة” قلعة الثقافة والأدب، مع خمرة الروح ، الموشّحة بالحسن، عُشتارة الشعر مرفوعة العين، والمؤنّثة بالتاء المربوطة، مروّعة الدلالة، كي يسترد رائحة الأنوثة في نصه، إلى ذكريات ما مضى من العمر،، ويفصح عنها ” بلقاسم مسروق ” بنص عنوانه “عشيقة” واصفا إياها بمواصفات بيئة الزاب الغربي،” كأزهار حديقة، وشهوة نخيل،  ومشاتل رمل”، وما يقال عن جسد  يملأ الدنيا فتونا، وهي الحزينة كأحلام الشتاء بين طيات الزربية، وكأبواب الحديقة حين بقيت وحدها من دون زوار، وفي غياب عشاقها مثنى مثنى،، وآخر ما جاء في متن الأحياء نص من الشعري المنظوم، والقول المرسوم بعنوان ” حجر سكَّريٌّ ” تناجي به صاحبته “حيزية خليل” بسكرة عروسة الزيبان، واصفة إياها، وداعية لها مرةً، وهادية إليها مرةً أخرى .
الراحلون في هذا المتن
من أحسن ما فعلت الأديبة مونية لخذاري إذ جمعت نصوصا للراحلين البساكرة رحمهم الله برحمته
الواسعة، وجعلهم في زمرة الشهداء والصالحين، وقد أحسنت أيّما إحسان إليهم أن جمعتهم مع الأحياء في
مثل هذا المؤلّف المتميّز بصفته عملا أدبيا مؤرخًا وفريدًا من دون سلطة إدارية، ومنهم الراحل  ” جموعي
أنفيف ” بنص “كرونا” هذا الوباء الذي كان سببا في موته، كان يقول :” غزانا كرونا بجيش عرمرم /
وأوغل برًّا وجوًّا وسمّضمْ / فأعمل خوفًا ورعبًا وقتلاً …، وكانت الكلمة الأخيرة من المقطع معبرة بعد ايام
معدودة، وقد كان صادقا ” هي الحرب يا إخوتي/ في الديار”، وودّعنا وهو ينادي إهدنا كمية من
الأكسجين يا صديقي، ويعلن ثاني الراحلين رحيلَه لزهر جزار ، في نصه”  إنذار ” مردِّدًا : ” قرّرتُ أخيرًا /
أن أرحلَ بعيدًا / بعدما ذبلت كلُّ ورودِي / وكل الأزهار .. بعدما غاب الربيع / وكل الفراشات / ” وقد
حل عنا بالوباء نفسه، وهو يفتش في مؤسسة صحية عن غرفةٍ وسريرٍ  كي يلاقي ربه ممتدّا على فراش
عاد، في وطن، أدّى واجبه مربيا قرابة ثلاثين عاما ونيف، وسافر وهو يردد ” سأوزّع نسخًا للإنذار / في
كلّ شوارع وطني/ وأعلن فراقك “،، وثالثهم من الجيش الأبيض، ممرضٌ أدّى واجبه في المستشفى عمل به
السنوات المطلوبة قانونيا ” محمد الصغير رشيد ” ، رحل  وهو يقرأ من على منبر دار الثقافة ببسكرة،
وباتنة، والمكتبة الرئيسة :”على الأرصفة / أجساد بلا ألقاب/ نجوم آفلة / آخر شمعة/ قصيدة قرأتها/ بلا
مساحيق”، كان يوزِّع مؤلَّفه ( باب الخوخة) مجانًا على مثقفي المدينة، هذا الرجل العظيم، المثقف والوفي
لحي سيدي بركات العتيق، الذي كان ينهل منه تناهيده وأوجاعة، ويرتل أنين الوجد البسكري، وحنين الألم
القديم مستندا إلى ( نخلة باب الخوخة العتيق) ،، ومن قبلهم  رحل ” عبد الله بوخالفة ” في حادث قطار
مفاجئ مريع قاتل بالقرب من الخروب، قسنطينة، وقد كان ممتطيا صهيل أحلامه، وملتحفا آهات الأوجاع
التي ذاقها وهو ما يزال ينعم بطفولة “مدرسة واعر” ، الموجودة بالبوخاري ببسكرة، وهو يردد علنا في نصه
” الكفن الماطر” : قاطرات/ وعمارات/ قفارْ/ هوَّتي المصباحُ / أثوابي بذارْ / …”، رحل صبيا وهو يمثل
جيلا حالمًا، وكونا كبيرا من الطموحات ” أفواجٌ من الأطفال يبنون الولايات/  صبايا من الشمس/ يغزلن
الينابيع / صبايا لونـــهُنَّ البحرُ ../” ، وصل به اليأس أن صار الموج أطباقًا من الصحراء”، ومن الصحراء
باحات طولقة  يتدفّق ” عثمان لوصيف ” مغنيا باكيا ما بين البكاء والغناء شعرة القصد، ومن نصّه ”
عرس البيضاء” ينساب زريابه ” شفقٌ.. ولعينيك تغريبةُ البحر/ يشتعل الأرجوان المسائي / يشتعل
الموجُ بين يديك / وأنتِ على ساحل المتوسّط تغتسلين../” ، فنراه  كالطفل يجمع على الجسم فاكهة اللغة،
وعيد المرايا، وزهرة الثلج، ونحلة الضوء، وشهوة الأرض، وملكوت الندى لكنه صوفيّ توحَّد بالملح
والقمح والتُّوت، ولا يرى المدينة إلا في فستانها الفستقي، إنه في فلسفة صوفي، ومتاع شعر،، ويرصّعُ
آخر المتوَّجين بهذ المتن رضوان رحمون بنصه ” الأرض” يرتّل آية الانتماء قبل الموت وبعد الموت،
يقول ” الأرض لمن طرق الجبل بقدميه/ وأطلق رصاصة / ووزَّع في قلبه أملا / اخضرارا / زهرة/ من
ماضي أبيه ” ، وتسامى بهذا الانتماء إلى الأرض سُمُوًا، أو هكذا يفعل الشعراء، وفي الأخير لاحظت
تعاطى كل مبدع من أصحاب هذه النصوص مع تيمة الموت، وأعطى كل منهم  حسب تجربته  ورؤيته
ورؤاه ما استطاع من تفنن، وانطلاقا من الرؤية العقيدية التي يمارسها مطمئنّأ ، واستشرافا للوجودية التي
تحقق طموحاته، وعلى كل حال فالموت قضاء، ومشهد، ومنعرج، يمثّله الأحياء والراحلون، مستعصمين
بالمعتقد، والفكر، والرؤيا .
وعلى ظهر المؤلَّف شاهد الأزمان، وشاعر الأجيال شيخنا الشاعر محمد بلقاسم خمار، وهو شاعر  جزائري، ولد بـ قدّاشة، ضاحية من ضواحي بسكرة سنة1931 م، تلقَّى تعليمه ببسكرة، وعائلته أهل علم، ثم انتقل إلى معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة حيث حصل على الإعدادية وبعدها  انتقل مباشرة إلى مدينة حلب السورية لمواصلة المرحلة الثانوية بدار المعلمين الابتدائية، وبعد هذه الشهادة التحق بجامعة دمشق، وتحصل على شهادة ليسانس في علم النفس من كلية الآداب قسم الفلسفة وعلم النفس، درَّس في سوريا أربع سنوات وعمل في الصحافة مسؤولاً بمكتب جبهة التحرير الوطني الجزائرية في دمشق، ثم في مؤسسة الوحدة للصحافة في دمشق محرراً مدة سنتين..، وبعد أن دخل الجزائر تولَّى منصب  مستشاراً في وزارة الشباب الجزائرية، وفي وزارة الإعلام والثقافة الجزائرية مديراً ، وتولّى مديرا مجلة ألوان، ومنصب مستشاراً ثقافياً.أطال الله عمره شاعر الأجيال، ومن مؤلفاته الشعرية : أوراق / ظلال وأصداء / ربيعي الجريح / ملحمة البطولة والحب/ حالات للتأمل وأخرى للصراخ/ ارهاصات سرابية من زمن الاحتراق / الجزائر ملحمة البطولة والحب / ياءات الحلم الهارب/ مواويل للحب والحزن / ومن الكتابات النثرية ” مذكرات النساي (الشامية) إصدار اتحاد الكتاب العرب بسورية .
ــــ الغائبون من المتن :
عمر البرناوي : شاعر “من أجلك عشنا ياوطني” ، صاحب الصوت الصداح من على المنابر الدولية، الذي أسكته المرض في آخر الأيام، ولد يوم 08 أبريل 1935 في بسكرة، شاعر ومؤلف، أتم تعليمه الابتدائي والمتوسط في مدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في بريكة، ونظرًا لفطنته انتقل بعدها إلى مدينة قسنطينة ليكمل دراسته في معهد عبد الحميد بن باديس، والتحق بعدها بتونس مباشرة بجامع الزيتونة وحصل على شهادة الباكالوريا عام 1957، وتحصّل أيضا بالموازاة على ديبلوم في التمثيل من مدرسة التمثيل العربي في تونس عام 1959 ، ثم اتجه نحو الدولة العراقية، ودخل كلية التربية بجامعة بغداد، وأتم الدراسات العليا بها متحصِّلا على شهادة ليسانس في اللغة العربية منها، بعد عودته إلى الجزائر اشتغل مدرسا بثانوية عماره رشيد بالجزائر الغاصمة، ثم مذيعاً ومنتجاً ومقدم برامج في الإذاعتين التونسية والجزائرية، كما رأس تحرير مجلة ألوان من عام 1972 حتى عام1981 ، تقلَّد منصب مستشار لدى وزارة الثقافة الجزائرية، تشرَّف بجائزة أفضل نشيد وطني في الجزائر عام 1983 وهو” من أجلك عشنا ياوطني”، وشهادة شرف لأحسن أوبيرات عام 1984، وشهادة تكريم من الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد عام 1987م، ومن مؤلَّفاته ديوان “من أجلك يا وطني”، وروايته” بين الوزارة والسّجّان” /” الولادةة الثانية ” ومؤلف أخر بعنوان “حوارات في الثقافة والسياسة “، توفي الأديب الإذاعي المسرحي الأبيراتاتي عمر البرناوي في مستشفى عين النعجة بالجزائر العاصمة بعد صراع مع المرض، يوم 24 /فيفيري/ 2005م، ودُفن في مسقط رأسه بسكرة، رحمة الله عليه …، وما ذكرت الشاعرين عمر البرناوي، ومحمد بلقاسم خمار إلا لنأخذ الموعظة، ونعرف ونكتشف كيف كانت دراسة كل منها، إذ كانا يجمعان العلم مسافرين من دولة إلى دولة، فالأول دَرَس في العراق، والثاني دَرَس في سوريا، واستطاعا أن يتركا بصمة شعرية في العالم الأدبي برغم شقاوة العيش .
وقد غيَّبتِ الصدفُ أصحاب نصوص أخرى، يحفظها بعضنا، ويجهلها آخرون، نظرًا للمجايلة وكذلك عدم
تدوينها، فضاعت تلك النصوص ، وغاب أصحابها، انظَمُّوا إلى قائمة النسيان يا للخسارة ، وسأذكر محبةً
بعضهم غاب عن هذا المتن السيد عويش  بائع الجرائد المتجوِّل الذي كـــان كل صــــــباح متأبطا نسخا من
الجرائد طائفا المقاهي لكي يوصلها للقرّاء في موعدها، وعلى أرصفة الطرق، يردّد: جرائئئئئئد جرائئئئئد ،،
ومن دون أن ننسى سيد الحلوى: عمي حميدة، الذي كان صباح أيضا، يحمل بين يديه حلوى مترجِّلا ما
بين المتوسّطتين ( بشير بن ناصر) و( فاطمة لبصايرية)  ليبيع ما تيسّر للتلاميذ أجزاءً صغيرة منها بثمن
زهيد، وهو ينشد أغنيتها: حلوى سُكْرَا / مخدومة بُكْرَا / طيبَة ومعطْرَا ، نسيتُ التكملة.. وأذكر كذلك  شيخ
مالح وبنين : عمي عَـــنبرية الذي  كان يجرّ عربته  محمّلة بالحمص والكمُّون، يغنِّي أنشـــــودتَه المشهورة ”
مالح وبنين” كل صباح ، متنقِّلا بها بين الأزقَّة، يبيع للناس قراطيس طيبة المذاق، ومغذية ، ونـــــــذكر في
المتن صاحب الكاليش : عمّي حسين الذي كان يغنِّي أغنيته المشهورة ، وهو يطوف بالزوار، وبأهل البلد
من حارة إلى حارة، يحاول أن يثبت وجوده في هذه الحياة ،، وأخونا جمال السَّقَّاء الذي ظــــل في السنوات
الأخير يهدي الماء أيام الجنائز في المقبرة صباح مساء، شتاءً وصيفًا، وكانت أنشودته التي  كان يغنيها
صامتا ” لا حال ايدوم” ، وكان كل من يشرب من سقائه يردد: هذا الوحيد الي فهم الحياة وأدرك أن
ميزانها لا يساوي جناح بعوضة ، وهناك أخرون أعتذر لهم لم أذكرهم لأن الذاكرة خانتني ، وهكذا كان
للعروس أن تبوك بكل عرسانها المتميزين من أهل القلم، وأهل الكلمة الشفوية، وقراءتي هاته لم تكن قراءة
نقدية، ولكنها قول متن أدبي يحصل لأول مرة بهذه الكيفية .
وما كان أن لا يضم هذا المؤلَّف أصحاب القصائد اللونية المتمثِّلة في تناغمات الألوان ، وهم رجالات
الفن التشكيلي أمثال؛  نور الدين تابرحة ،  بشة سليمان ، بلقايد مجاهد ، حرزلي صالح ، رحال لزهر،
نوري خالد ، درنوني محمد ، كابرين العايش، العايب بشير ، كهمان عبد الحميد ، بورمل يحي ، شريط
دليلة ، جهارة السعيد ،  بن سعيد حسن ، بن طاية عبد الرزاق ،  فرحاتي رياض ، بوزاهر عبد الله،
يوسف سعدون ، عبد الكريم كرميش  ، يسين مغناجي  ، وآخرون..، حيث كان بالإمكان أن تتزيّن
صفحات المتن توقيعاتهم  للونية الشهيرة، التي حضرت استمتعنا بها في معارض بسكرة، وثمة كم كان
يكون بوح بسكرة في أجمل وأحسن صورة متكاملا  بين الحرف واللون، بين الصوت والصمت، لأن هذا
الفن هو تشكيلات تجريدية تتشارك مع الزخرفة والحركية والإيقاع، مثله مثل القصيدة، وتكمن جماليته في
اللانمطية وفي شفراته، وقيمه الفنية، وتداخل الألوان، والجمال والجلال في اضافات إبداعية تجمعنا في
عملية القراءة، وتشتتنا في عملية التفسير والتأويل .
ومع شكري الجزيل للمشرفة الأديبة مونية لخذاري، التي اجتهدت أيما اجتهاد لإخراج هذا المؤلَّف في هذه
الصورة الأدبية التاريخية، أطال الله عمرها، ولا حرمنا الله من خدماتها الأدبية .والسلام عليكم .
الفيض / بسكرة الثلاثاء 30/أوت/ 2022

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!