رحلة إلى الله(4) بين تبوك وتيماء

بقلم: محمد صوالخة 

أنظر إلى النخيل الذي يطاول السماء بهاءً وأتلمس سيقانه أُحاول هز جذع نخلة عساه يساقط عليّ رطباً جنيا، ولما لم أستطع أن أهزه حاولت العودة إلى موقع حافلتنا والقلب قد ارتاح قليلاً ، ولكن ما يثير المشاعر هو الوقت الذي يمر بسرعة غريبة ،  أريد قليلا من الوقت لمزيد من الاكتشاف .

وما هي إلا ثوان حتى سمعت صوتا يناديني،  ألا يا فلان تقدم ، سرت باتجاه الصوت وإذا بها سيارة للشرطة ، خفت قليلاً ولكني احتملت خوفي وسرت إليهم ، صباح الخير ، صباح النور .. أنت ضائع ؟ لا بل أنا تائه ، من أين أتيت؟

من الأردن، لا ليس هذا ما قصدته أين تقطن هنا ؟  أنا لا اقطن هنا،  ولكني خرجت من الاستراحة ، وعند محاولة عودتي فقدت اتجاهي ولم أستطع العودة، آخر ما أذكره هو الدوار لأن كل الأشياء في هذه المدينة متشابهة ” شنهو لعاد تحسبها عمان ” أخشى من عاقبة إسماعهم ما يتردد بداخلي بعد ما سمعته من كلمات ، وهل من مدينة على وجه البسيطة تشبه عمان .

يسعفني أحدهم من سوط كلماته بقوله:تعال يا أخي سأرافقك لموقع حافـلتــك ، ســرت معــه وهـو يــــردد ” البارحة العين ما نامت يعرض لها النوم ومعيا ” أوصلني للموقع ، ولما نظرت للحافلة وإذا بالجميع نيام ، صعدت إلى أعلاها وجلست أتأمل هذا السحر وهذا الجمال الإلهي وزادها الباري بأن منحها الماء والخضرة، آه كم تمنيت أن لا يعثر علي ذلك الشرطي وأن أبقى في ضياعي، ولكنه حظي السيئ أبى أن يتركني سابحاً في ضياعي متمتعاً بلحظات التيه لأكتشف هذه المدينة أكثر ، لأغوص فيها أكثر لأجوبها من أقصاها إلى أقصاها لعلي أكتشفها فأكتشف نفسي ، النفس تراودني على البقاء ، وشيطاني يقودني بلا إرادة مني إلى أرض العامرية .

وفي لحظات التأمل تلك يجلد القلب سؤال توجهت به  لنفسي أولاً ولله جلت قدرته ثانياً، هل عاد جند روما من جديد ؟ هل دنسوا هذه الأرض كما دنسوا حفر الباطن وما حوله من مدن أبية ؟لماذا يا رب لم تكرر تلك المعجزة وتبق على عذرية هذه الأرض؟لمَ لم تمنحها القدرة على الثورة كما منحتها في عصر نبيك وحبيبك ؟ ما الذي اختلف ؟ فهي نفس الأرض وهو نفس البحر ونفس النخيل لمَ لمْ تلق يا رب الرعب في صدور هذه الجراذين القادمة من الغرب ؟ .

يعود قريني بجنونه ليعيدني لليلى ومجنونها العذري، الذي قضى في سبيلها ،  تلك الرائعة تناديني وفي نفسي هاجس يقول لي اهدأ فأنت في طريق التوبة في طريقك إلى الله ، نعم ولكن أي توبة تمنعني من التمعن قدر المستطاع في تاريخ هذه الأرض وأبنائها، أي توبة هذه التي تمنعني من نبش الذاكرة؛ لاستخراج ما علق فيها، أو ما تبقى فيها عن هذا التراب المؤدي إلى العراق، التي رحلت إليها العامرية ومرضت فيها وتمنى ابن الملوح أن يصل إليها ويكون الطبيب المداوي .

يقولون ليلى في العراق مريضة    فيا ليتني كنت الطبيب المداويا

ولكن كم من الصحراء سنقطع حتى نصل تلك الديار الغضية التي ما زال يفوح منها عطر ليلى ، وينبت نحيب قيس زهوراً من الياسمين، أو أشجاراً من النخيل الشامخ كروح قيس وقلب ليلى ، كم من الرمال ستثور لتقتل سرعة الحافلة قبل أن نصل تيماء؟  كم من الوقت سيموت وأنا أنتظر الوصول عساني أعثر على بقايا من أثرها ؟  أو قطعة من شال كان يغطي رأسها ، لا بد من العودة لأبي يونس ومعاودة سؤاله ، اتجهت إليه بنظري وناديته، فقاطعني وكانت إجابته بمنتهى الخبث  عندما نصل سأخبرك ، اصنع لنا الشاي وناولني قطعة من الخبز ، لماذا السؤال؟  وماذا لك فيها ؟ هل نجمتك تاهت فيها وتريد البحث عنها؟  شعرت بأنه يجب عليّ أن أستخف به ، لا يا سيدي ولكنك قلت بأنك أتيت إلى هنا أكثر من مرة فأردت أن أرى أثر خطوك فيها ، فهو لا يعلم أن القلوب من هنا شهقت بالحب وهنا ودعته وهنا أيضا تبحث عنه ، هنا مكان ولادة القلوب النقية التي تحتمل كل المصاعب لأجل من تحب، تحب الحياة رغم قسوتها فقط لأن فيها الحبيب ، هنا تاريخ حياة خالدة لا تفنى ولا تزول  حتى وإن كانت قصيرة ، كيف لا ؟ وهنا كان مصيف ليلى وأهلها .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

2 تعليقات

  1. Prof. Manal Sherbini

    جميل ما قرأت لك هنا، وجميل أن مررت بنا من هذه اللوحات العبقة، فواحة الآفاق واللغة..

    تقديرنا كما دوما

اترك رداً على Prof. Manal Sherbini إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!