في رحابِ رسولِ الله  ومدينته الطاهرة/ (ج الأخير )بقلم محمد جسين صوالحة

 

 

 

ما زالت خيوط الدهشة تخترق عواطفي وشموع الفرح تنير جوارحي وتضيء عتمة الذاكرة التي لم اعد استطيع قرأة ما علق بها … اين نحن الآن لاأدري؟  اين وصلنا ؟ لا أعرف … لم أعد اسأل ابو يونس عن شيء ولم ِيخطرببالي ان اسجل اسماء تلك البلدات التي لم ندخلها وانما كُتبت اسمائها على لافتات على جانب الطريق . الشوق لرسول الله صلى الله عليه وسلم  ومدينته وزمنه يخترقني … يقتحمني ويشعل نيرانه في القلب … تترأى لي صور اؤلئك الأجداد … أحن الى الأمس البعيد … الى اولئك الفرسان الذين اجتازوا بحور الظلمات … وأشعلوا شموس المحبة والإيخاء … الى من نشروا رسالة الصفح والعفو عند المقدرة … التسامح حتى مع الاعداء … هم الذين اهدوا البشرية معنى الكبرياء والشموخ … هم الذين كانوا في جاهليتهم أعزاء لا يرضون بالضيم ولا يخضعون الا لألهتهم … وبعد ان اهتدوا لرسالة الحق وأمنوا بها  خضعت لهم العزة … وامتطوا صهوة الكبرياء وحملهم المجد على جناحه وكانوا هم وحدهم من دون بني الدنيا شعار السمو والنبل والعظمة ، وما عادوا بعد ايمانهم يحنون الهامات الا لله الواحد القهار … فقط الملك العدل من يخشونه ويخشعون ويذلون عندما يكونون في رحابه … ديار الأجداد الذين منهم من طردته ديرته واهله الأقربون ومنهم رسول المحبة والانسانية … الأجداد الذين خرجوا من هناك لا يملكون من الدنيا الا النور الذي يملأ صدورهم … والجراح التي علقت في اجسادهم اوسمة فخر واعتزاز … اوسمة كتب عليها الهي ان لم يكن بك غضب عليّ فلا ابالي … واجداد نصروا وآزروا وضحوا بالنفس والمال وبكل زينة الدنيا ومتاعها ،  وعندما يُسأل المنفيون من ديارهم  عن عدم اقبالهم على الدنيا الغرور … تكون اجابتهم واحدة موحدة ” ان الدنيا وما عليها لا تساوي عند الله جل في علاه جناح بعوضة … فكم أُساوي انا من هذا الجناح ؟ وكم هو نصيبي منه اذا ما اقبلت عليها ؟  ” لا فنحن نشتري دار الخلود والبقاء … نحن نشتري جوار العفو الرحيم ، ونرغب عن دار الزوال والفناء .

هنا سرقني ابو يونس من تداعيات الذاكرة والصور التي راحت تتراكم امام عيني وخيوط الدهشة التي تجتاحني ليخبرني اننا الان على مشارف مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم … مشاعر مختلفة ومختلطة … مشاعر مضطربة …. نشوة الفرح  تغمرني … لا ادري ان كانت الحياة هي التي احتضنت قلبي ام ان قلبي  من احتضن الحياة …. كل الاشياء تلونت بالأخضر الزاهي … اسمع كل الاشياء تغني من فرط سعادتي حتى اطارات الحافلة ، كنت اسمعها تردد نشيد الحياة والحب …. كيف لا ونحن بعد قليل من الوقت سنكون في ضيافة رسول العزة والسمو والكبرياء ، هل يمكن لكلماتي البسيطة ان تعبر عما يكتنفني من مشاعر؟  هل يمكنها ان ترسم سعادتي او تصفها ؟ من يصفعني؟  لعله يجعلني اشعر بأني اعيش الواقع… اني حقيقة  في مدينة رسول الله ولست احلم بذلك اين امي تعنفني ؟ لعلي اخرج من عالم الوهم لتعيدني الى ما انا فيه من حقيقة ،هل يمكن للشعر ان يصف ما يحتويني من مشاعر؟وكيف له ذلك وانا الان قد فقدت كل قدراتي على الوصف والتعبير ؟.

وقبل دخولنا مدينة حبيب الله عليه السلام… لفت انتباهي ذلك المبنى الرائع  والمهول في شكله وطريقة بنائه ، اعتقدت للوهلة الأولى انه المسجد النبوي الشريف ، ابو يونس الم نصل بعد ؟ … لا … اليس ذلك هو المسجد النبوي ؟ لا ذلك المبنى الذي تراه هو قصر الملك فهد بن عبد العزيز … وهل تعلم يا ابا صخر بأنه لا طريق تؤدي الى هذا القصر، وكيف الوصول اليه ؟ عن طريق الطائرة فقط… لانه كما ترى يقع على مرتفع عال… ياه… يا ابا يونس انه المال وما يصنع … اخذنا الحديث عن القصر ودخلنا أرض رسول المحبة والعطاء … دخلنا ارض ابا القاسم والصديق والفاروق وذي النورين ومن كرم الإله وجهه … دخلنا الى انبثاق النور والهدى … يا الهي هذا الخافق بداخلي لم يعد يحتمل مقدار الفرح والسعادة اللذان يغطيانه … لا بل يتسعان عن ذلك لاصبح كلي عبارة عن شعلة من الفرح …  هل نحتاج لكثير من الوقت للوصول الى طيبة … لا نحن الان فيها وفي طريقنا لموقف الحافلات … وعاد ابو يونس يسير الهوينا … اقتربنا من مبنى ضخم البناء  شاسع المساحة  اتخذ ابو يونس  فيه مكانا وأوقف الحافلة ونادى بمكبر الصوت حمداً لله على سلامتكم  نحن الان في المدينة المنورة  وذلك هو المسجد النبوي الشريف . اين نحن الان ؟ نحن في ساحة المحكمة … ويا مجنون سميت بهذا الاسم لأنه المكان الذي تُنفذ فيه الاحكام الشرعية . لم نكن نبعد عن حدود التوسعة للمسجد الشريف الا امتاراً قليلة … هبط المعتمرون وكل سار في اتجاه نادى ابو يونس بصوته الجهوري  قليل من لوقت ويحين موعد صلاة الجمعة من أراد ان يبحث عن سكن يبحث ومن اراد ان يقيم في المسجد فليذهب للمسجد … سنقيم في المدينة اربعة ايام … وانت يا محمد … ما الذي تريده … اريد سكناً نرتاح فيه كيفما شئنا وكانت امي قد تعرفت على اثنتين من النساء من العين الاخرى ,العين التي اصابها الرمد من نابلس المحتلة ..نابلس الثورة والانسان … وقد اختارتا ان تشاركانا السكن …انتظر قليلا وسأصطحبك الى سكن مريح وصاحبه محترم واسعاره ضمن الإمكان . حسنا : هيا بنا … وسرنا وما هي الا مسافة قصيرة حتى  قابلنا باب السلام لمسجد الرسول الأعظم عليه افضل الصلاة واتم التسليم  اتخذنا الإتجاه الايمن واذا بلافتة صغيرة كتب عليها “سكن النعمان2″ دخلنا اليه واخترنا جناحا كان مكونا من غرفتا نوم وصالة بالإضافة لتوابعه ومكيف  ، هي فرصة للاستلام لملك النوم والاحلام ..  لان بانتظاري الكثير من العمل في الايام الاربعة القادمة … مباشرة اتجهت للحمام واخذت حماما ساخنا شعرت بعده بالارتخاء التام … خرجت منه مباشرة للسرير رميت بجسدي المرتخي فوقه واسلمت جسدي وروحي لملك النوم بعد ان قرأت اية الكرسي والمعيذات ورحت في نوم عميق … فاتتني صلاة الجمعة والعصر والمغرب ولما استيقظت من النوم توضأت واسرعت الى مسجد الحبيب قضيت الصلوات التي فاتتني وانتظرت صلاة العشاء وما ان انهيناها حتى طلبت من ابي يونس ان يرافقني برحلة داخل المدينة كان مشروع توسعة الحرم النبوي في بدايته ولم يكن يبعد عن موقف الحافلات الا امتار قليلة  تفقدته في نظري … لم ارَ الا الأنوار المتناثرة بشكل شاعري … لم استطع تمييز الاشياء الا ان لجانبي الايمن المسجد النبوي وانا الان في ساحة المحكمة.  ابو يونس سأذهب للسوق للتعرف عليه هل ترافقني … نعم … هيا… نهضنا وسرنا باتجاهه … يا الهي !! اين مدينتي الحبيبة من هذا ؟اين زقاق وحواري عمان من هذا الترتيب الرائع؟اسواق هنا تعني اسواق ولا يوجدمساكن او عائلات ، لكن فوضى عمان وشقيقاتها الاردنيات تبقى الأجمل … الصخب في عمان يمنح القادم الحياة ، والهدوء  في طيبة يمنحك القدرة على التأمل والتمعن في الاشياء … عمان تمنحك الشعر والابداع … الهدؤ في مدينة الحبيب ومسكنه تمنحك الدفء والحب … مقهى السنترال في شارع السلط يمنحك القدرة على اكتشاف حيوات اكثر … ويرسلك الى ثقافات متعددة … ولا مقاهي في المدينة المنورة … ايهما احب الى قلبي يثرب ام عمان … اقسم ان  طيبة حبيبة … طيبة الانثى الرشيقة التي تغوي القادم اليها بالبقاء وتراوده عن نفسها لتنسيه ما يحب في ديرته وهي قادرة على ذلك لما تتمتع به من صفات ومزايا الدين فيها والانسان الأحب لكل من نطق بلا إله الا الله ، فيها عودة الانسان لنفسه وتعايشه مع الاخرة،هنا يبقى الحلم بمرافقة الشفيع في جنان الله في اليوم الذي لا ينتهي..يوم الخلود ولكن عمان المتناقضات لاتقارن بمدينة اخرى،عمان بسهلها وواديها  بتلالها وسفوحها.. بفوضاها العارمة.. وهدؤها المزعج  هي الاحب … ولكن اين هي من هذا التنسيق وهذه الروعة ؟ ارد على اسئلة النفس يا سيدي جمالية عمان تبقى في فوضاها..خصوصيتها في تناقضها ،اهدأ فلا مكان لعمان هنا ابقى مع حبيبك ومدينته المحمية من المسيخ الدجال، ومع ذلك لايوجد في الدنيا اغلى من عمان فوالذي نفسي بيده لو خيرت ما بين الدنيا بأسرها وبين عمان لاخترت عمان ونسيت ما تبقى من الدنيا.لا ادري سر هذا الاصرار والمقارنة بين عمان واي ارض ادخلها لماذا تسيطرعلى عمان بشوارعها الضيقة والاخرى المتسعة لماذا تسيطرعلىَّ عمان بمخيماتها ومناطق البرجوازية…عمان بنت العشيرة…عروس الدنيا،يخرجني ابو يونس من عاصفة الحنين التي تجتاحني لندخل الى السوق ، يا لهذا الجمال … وهذه الروعة … يا لهذا التنظيم  … لا تحتاج للخروج من هذا السوق الا عندما تنهي كل احتياجاتك ..لا  ليس سوقا بل انه مدينة مصغرة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان  ودلالات … سوق يحتوي على كل ما يخطر بالبال من اصغر الاشياء حتى اكبرها متوفر…وانت تتجول في هذا السوق تشعر بمتعة غريبة‘لا تشعر بملل او تعب،  مضى الوقت ولم نشعر به عاد ابو يونس لخطفي من متعتي ليخبرني بأن الوقت تأخر واصبح لزاما علينا العودة ،حسنا لنعود ولكن لنغير الطريق الذي اتينا منه علنا نكتشف شيئا جديداً من ذواتنا وحقيقتنا التي طالما غابت عنا…عسانا نكتشف براءتنا وطفولتنا عندما نكتشف براءة وطفولة هذه الشوارع … واستمر المسير وقبل ان نصل كل منا الى مكانه كان المنادي ينادي لصلاة الفجر … اتجاهنا للمسجد وهناك وبعد ان ادينا تحية المسجد امسكت بكتاب الله ورحت اقرأ كلماته وكنت قد فتحت المصحف الطاهر على سورة الاسراء وكانت ” سبحان الذي اسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من اياتنا انه هو السميع البصير ” وتعود الدهشة لتخطفني من جديد … بالتأكيد ان المصطفى في رحلته تلك مر من هنا … الى تبوك وعمان والاغوار الى القدس الشريف … الان اكتشفت ان سر تعلق  الانسان الاردني بأرضه هو البركة التي انزلها الله على هذه الارض التي تجاور الاقصى … اذاً هذا هو سر التوحد بين الضفتين … اذاً لم يكن سر التعلق بين شرقي النهر وغربه محض صدفة بل هو منحة الهية وهبها الله لأرضي لتكون في جوار المساجد الثلاثة الحرام والنبوي والاقصى  اذاً هو سر الخلود لأرض الانبياء والمرسلين . هو سر البقاء والعشق لأرضي أرض الحشد والرباط …. ياالهي .. انا في بيت رسول الله وصحبه ولا ألقي بالتحية عليهم … هل يمكن أن أكون في بيت أكرم خلق الله ولا أُشرف عيناي بروضته الطاهرة .. أشتاق لأن أُلقي بتحيتي اليه فيردها لي بأحسن منها … يا له من شرف عظيم وغاية الأمنيات … نهضت من مكاني وركضت باتجاه ألامام الذي شرفه الله تعالى بأن يكون اماماً لثاني الحرمين .. ركضت باتجاهه … كان ينتابني  احساس غريب .. لا ادري كنهه…  ربما كان ذلك الاحساس نتيجة الامنية التي باتت تسكنني وهي ان أصل الى تلك الروضة … كان يُخيل اليّ بأن نور يشع من عيني ذلك الامام ومن جبينه لا بل كان النور يسطع من الامام… والسؤال في النفس كيف لا يشع النور منه وهو في حضرة كامل النور وخادمه … كيف لا يسطع نوره وهو المشاء في الظلمات … انا لا اريد نورا كما نوره اريد نور الحبيب ان يملأ قلبي عسى ان يمسح ذلك النور عتمة سنين خلت بلا فائدة او طائل … اقتربت من الامام وكانت علامات الخوف والرهبة قد بدت تظهر على ملامحي … وفاجأني بكلماته ولم يكن بالمسجد غيرنا الا نفر قليل ما بك يا بني .. اريد ان اسلم على الهادي … اريد ان القي بالتحية عليه … اريد ان اشكو له حالي وارجوه ان يقبلني من امته وانا الذي انصرفت عنه الى الملذات والشهوات … اريده ان يتقبلني فيكون شفيعي في” يوم لا ينفع فيه مال او بنون الا من اتى الله بقلب سليم” فقط اريد ان يتعافى قلبي … حسنا يا بني ودعا الله بأن انال القبول سرت خلفه وما من خلية في جسدي الا وكانت ترتعش وكنت اشعر بها تبكي ندماً على ما فات من العمر وفرحاً بزيارة أعظم وانبل وأشرف من وجد على هذه البسيطة .. هو من صلى الله وملائكته عليه، انا في حضرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وصلنا الروضه وكان هناك حاجز حديدي لمنع الدخول الى الروضة … وكان قبلها الامام قد طلب مني ان اردد خلفه ما يقول … السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم … السلام عليك يا حبيب الله .. السلام عليك يا صديق، السلام عليك يا عمر وراح يدعو الله جل في علاه ان يتقبلني وانا لا أكاد أتبين ما أقول من شدة بكائي … خرج الإمام وخرجت خلفه و غاية امنياتي لو قضيت نحبي في تلك اللحظات التي كنت اشد خلق الله ارتباطا بالله ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه .

عدت لموقع الحافلة ووجدت ابا يونس ونفر من المعتمرين هناك  ..  سألت ابا يونس كيف لي انا اتجول في مدينة النور والبهاء .. فقال بسيطة ابو صخر … تقف امام السكن ” على الشارع ”  وستجد الكثير من الحافلات الصغيرة والسيارات التي تأخذك الى حيث تريد .. حسنا ابا يونس… تجولنا في المنطقة حول السكن وعدنا الى موقع الحافلة نلعب الورق ونحتسي الشاي ونسيت قلب الأم الذي سوف يحترق خوفاً على ابن خرج منذ صلاة العشاء ولم يعد حتى هذه اللحظة واخت حائرة مشغوله على اخيها اين ذهب في منطقة لا يعرف فيها شيء ولكنهن متأكدات بأني في وضع جيد … لأنهن يعرفن طباعي .. وانني اذا ما اردت شيئا لايوجد ما يردني او ينمعني عنه الا ما هو اقوى مني . اخبرني ابو يونس بأن الوقت تجاوز الثامنة صباحا وانه حان الوقت لأعود الى امي واختي وابني الصغير ولسريري … اي سرير هذا الذي تتحدث عنه سأذهب لأمي اتناول افطاري معها وبعدها اخرج في رحلتي للاطلاع على هذا المكان الذي يشعرك بالدفء والطمأنينة . وعندما وصلت الى  السكن وجدت امي تقف مع السيد محمد نعمان مدير وصاحب السكن وتخبره عن خروجي وعدم عودتي … اسمع صوته وانا اقترب منهم ها هو قد عاد … اين كنت يا بني كنت عند الحافلة مع الشباب تجولنا في السوق وهأنا قد عدت … امي اريد الخروج الى بعض المواقع الدينية … حسنا سنذهب سويا …  ذهبت برفقة محمد نعمان لاستئجار حافلة  ونجحنا في ذلك فقال السائق من اين نبدأ قلت له من اي مكان تريد … لاننا لانعرف المناطق نريد زيارتها جميعا … حسنا… نبدأ من مسجد قباء …. توكل على الله … هل المسافة طويلة … لا ما هي الا دقائق ونصل … شدتني كثيرا لهجته البدوية والتي لا تختلف كثيرا عن لهجة ابناء ديرتي … كنت قد طلبت منه ان يحدثني … عن اهل المدينة الحديثة … فقال يا اخي لا تسالني عنها اذا رغبت فهناك من عاصر تأسيس الدولة الحديثة او من الجيل الذي تلاهم … واخذ يتحدث عن دولته وتوفيرها كل متطلبات الحياة الكريمة لابنائها … والنهضة التي تعيشها العربية السعودية من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية.

ها نحن قد وصلنا قباء يا اخي … عندها سيل من المشاعر اجتاحني … اخذني معه لعصر حلمت لو كنت احد ابنائه … هنا تأسست الامبراطورية العظمى … هنا كان النداء الاول لدولة اجتاحت الارض وعلمت البشر اينما تواجدوا معنى الرقي … من هنا انطلقت شموع الحرية والاباء … من هنا كان التعريف الحقيقي لمعنى الانسان … من هنا كانت انطلاقة الحق .. ومتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا… الهي .. كيف كان الاجتماع الاول بين ابن هذا التراب والقادم الجديد المبشر بسعادة الانسانية … ما الذي دار في ذلك الاجتماع … كيف لمجتمع اسس على هذه المبادئ ان لايجتاح الدنيا … وان لا يقبل عليه من ضاقت بهم الدنيا واعجزتهم صروف الدهر . نعم هنا كان المؤتمر التأسيسي لانبثاق الدولة الأعظم في تاريخ البشرية … امبراطورية السلام والمحبة … هنا كان النداء الاول .. هنا صعد بلال الحبشي لينادي العالم بالنداء الخالد ” الله اكبر ” هنا صدرت الشهادة الاولى علنا دون خوف او وجل بأن ” لااله الا الله .. وان محمدا رسول الله   هنا في ساحة هذا المسجد تأخى المهاجرون واصحاب اوسمة الكفاح في سبيل الله … في سبيل احترام انسانية الانسان … هنا كانت تتخذ القرارات الاهم … من هنا صدر القرار بالأعتراض لقوافل قريش القادمة من الشام … من هنا نادى منادي الجهاد لبدر واحد وغيرها من معارك وغزوات الامبراطورية الجديدة .

يا سيدي ما دمنا في قباء من اين دخل رسول الله الى المدينة … هل يمكننا أن نذهب الى تلك المنطقة التي تشرفت بمقدم النبي الأمي القادم من ارض اسماعيل والبيت الذي رفع قواعده مع ابيه … من الارض التي انفجرت حنانا ورفقا على اسماعيل عليه السلام وقست على خاتم النبيين … ركبنا السيارة وسرنا فترة  لاتزيد عن ربع او ثلث ساعة حتى وصلنا وقال من هنا من الثنيات دخل الشفيع الى المدينة … وهنا راحت تترأى لي الجموع المنتظرة لقدوم حبيب الله … لتستقبل البشير … لتنصره وتفديه … من هنا وبعفوية تامة ودون ترتيب مسبق وقف الرجال والنساء ينتظرون الهادي  لا يأبهون بجلد اشعة الشمس الحارقة لرؤسهم … اكثر ما يشغل افكارهم متى سيصل النذير ونمتع انظارنا برؤيته … من هنا انطلقت الحناجر عندما هل نوره عليهم تردد  :

طلـــع البــدر علـينا      مــــن ثنيــات الـوداع

وجاب الشكـر علينا      مــــا دعـــى للــه داع

ايها المبعوث فينــــا      جئت بالأمر المطـاع

جئت شرفت المدينة   مرحبــــا يا خيـــر داع

ما زال النخيل يزهو .. والثنيات تفخر وسمت الى ما بعد السمو … بأن النذير وصاحبه قد ما منها . والان الى اين؟ … سنذهب للمساجد اسبعة … حسنا هذه المساجد لم تثر بي شيء يذكر الا انها كانت ملتقى لاصحاب الرسالة المنيرة … كان مرورنا على هذه المساجد سريعا … شباب بعمر الورود يعطون دروسا عن تاريخ المسجد والمكان بمقدرة عالية … مستعدون للآجابة عن اي سؤال او استفسار … وبعد ان انهينا زيارة المساجد سالته ان كان بامكاننا زيارة موقع احد … المعركة الخالدة … هيا وانطلق السائق وهو يتحدث بكلمات افهم بعضها ولا استوعب البعض نتجة لسرعته في الكلام .

وصلنا الى الموقع واذا بفتى يقف هنا متوسط الطول مليء الجسد قد استقبلنا وسار بنا الى جهة القبر .. الضريح … او روضة الجنة .. التي تضم رفاة اسد الله ورسوله وسبعون شهيدا اخر … كان الفتى يتحدث بطلاقة بالغة وبصوت مؤثر عن تاريخ المعركة ” أحد” ونتيجتها … وهنا تدخلت وكأني ادخل نقاش مع دكتور او اقف امام عالم … هنا يا سيدي تجلت حنكة ابن الوليد ومقدرته العسكرية الذي استطاع ان يقلب نتيجة المعركة من هزيمة مذلة الى نصر عزيز … … لا يا أخي انه مكر الشيطان وليست حنكة سيف الله … كيف وابن الوليد لم يهزم في معركة قط ؟… يا أخي انه الشيطان الذي اغوى الحماة المنتشرون على الجبل للهبوط والمشاركة في جمع الغنائم ومخالفة اوامر السراج المنير … الذي ابلغهم بضرورة البقاء … ان قتلنا فلا تنصرونا وان غنمنا فلا تشاركونا … كان قد قرأ المعركة قبل وقوعها … وهنا تأتي الحنكة وحسن القيادة والتخطيط العسكري الفذ هنا وقفت هند بنت عتبة تنادي ابناء قريش بقولها :

نحن بنات طارق        لابسات النمارق

ان تقبلوا نعانق          وان تدبروا نفارق

فراق غير وابق

هنا وقفت هند تنتظر من وحشي تنفيذ امرها بقتل الأسد … من هنا توجهت حربة الخيانة والغدر من يد ذلك الوحشي الماهر الى ظهر عم السراج المنير لتخترقه … وتعلو زغرودة الهنود التي اقبلت لتمثل بجثة حمزة بن عبد المطلب وتلوك كبده .. وهنا توعد ابو القاسم بأن يمثل بثلاثين من رجال قريش ان مكنه الله منهم وينهاه الرحمن عن ذلك بأن عاقبوا بمثل ما عوقبتم .

وهنا يعود الفتي ليسحب مني خيوط الذاكرة ويخرجني من دائرة التداعيات ليقول … لم يكن ذلك النصر المؤزر كما تتوقعه … ولكن فقط كانت المفاجأة ولدقائق معدودة بعدها انسحب خالد وطارد المسلمون فلول قريش … هذا الدرس من الفتي أعادني من جديد للتساؤل اين ابناؤنا من هذه المعلومات … بدأت الغيرة تدب في اوصالي … لأن الغالبية من ابناء وطني وشبابها لا يدركون من امور دينهم ودنياهم الا صرعات الموضة واخر ما توصل اليه الفيديو كليب وسيرة هذه الفنانة ومحاولات تقليدها .

اما سيرة المصطفى عليه السلام فلا تعرف … الدوله الاسلامية وجدلية تأسيسها بين التحدي للواقع المؤلم ورفض الطبقة الارستقراطية وبين تحدي الطبقة الكادحة لتأسيس الدولة التي تمنحهم حقهم في الحياة كما يريدون هذا لا يعرفه ابناء بلدي لماذا ؟

وعودة الى احد الخالدة … احد احد موازين القيامة … احد التي كانت ساقا ابن مسعود اثقل منه … احد التي قتل فيها الراعي الامين ابن مسعود ابوجهل … وهنا خاطب ابو جهل محرضا ايه دونك سيفي يا ابن مسعود ومحرضا اياه ان اصعد الشيماء يا ابن مسعود .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!