كتراية العظمة / بقلم :صديق الحلو

كتراية قرية منسية في مجاهل ذلك الجزء من الوطن. .كتراية تقع وسط نبقاية والسدير. كان البدو يسكنون خلف تلال القيزان الرملية المرتفعة حتي اذا جاءت خيول العسكر التركية لجمع الجباية والاتاوات والدقنية يرونهم من أعلي التل فيختفون في الغابات المجاورة. كانوا يتمنون أن تظهر معجزة تزيح منهم المعاناة .وكانوا يقولون :مئة رجل في تربة ولاريال في طلبة. وهنا ظهر اسم المنتظر علي صفق الشجر وقشر البيض تفائلوا خيرا. المطر ينزل بالبرد والسمك. وكانت ظلال أشجار السنط تستطيل من عد أم دهيسيرة حتي مشارف كتراية العظمة. تلك أيام لها طعم الشهد. لاشيء يقض المضاجع. والأيام تسير هنيئة بالناس والأشياء والأغنام وهي ترضع صغارها. وأصوات الحمير والابقار والكلاب كأنها سمفونية تعزف أجمل الالحان. الناس يزرعون الفول والسمسم والذرة. والأرض تعطي وتفيض. تجدهم جميعا في الأعراس والمآتم. يجتمعون مساء للعشاء في الضراء وفي المساء يجتمعون في دكان حاج أحمد حيث المذياع الوحيد يستمعون لوردي وعثمان حسين وإبراهيم عوض. وهنا أم درمان. إبراهيم عبدالله يحكي عن الحياة بحكمة ويدلق كثير من النظريات .الخال عبدالرحمن يحكي عن درة مربط خيلنا وعن بطولات المهدية التي لاتنتهي. يضحك وهو يحكي عن خزان مكوار وعن فرح ودتكتوك ويوسف أبو شراء ومخاضة أبوزيد الهلالي علي مشارف الخواجة كوستا. القطار يمر من هنا في طريقة للغرب.
فاطمة كقصب السكر تملأ حياتنا بهجة وهناء. نذهب معا لرعي الماشية والأغنام وجلب الستيب. أم بانقيقا والحنبك والصمغ. وصيد العصافير الصغيرة. الإمام والسيد وموسي احمد ازرق والبلال عيسي ومهدي الحاج يصطادون الأرانب البرية وطيور القطا مع كلابهم. نجوم السماء كأنها ثقوب في ثوب موشي بالماس. العطر والأحلام وأصوات وشوشة الهواء. قال إبراهيم عبدالله خذوا من البنات فرش التسريح لأنهن يتشبهن ببنات المدن وتصدي السيد للمهمة. يحبون الدوبيت والالغاز والاشعار والأناشيد والراتب. وعند الأفراح تجد موسي بربابته دائما في المقدمة يحمل سوط العنج مع خليل الذي يختال كطاؤوس بطاقيته الحرير. أمام حسن يستمع لإذاعة لندن باستمرار يحمل مذياعة ويحلل الوضع الراهن ويستقؤيء المستقبل. وهو بمزرعتة يحرث الأرض ويضع البذور والتيراب بعد أن استعمل السلوكة. العام كله يعملون. في الصيف يستعدون للخريف بحرث الأرض وفي الشتاء يرحلون لجني القطن في ام هانيء وطق شجر الطلح والهشاب لحصاد الصمغ. في الدرت شهر نوفمبر تعقد الزيجات الجديدة. ذكريات المواسم لاتنتهي يملأون اللواري بجوالات السمسم والفول والذرة. تجدهم يجتهدون في زراعة اللوبيا والباميا سارا والبطيخ والدردقو والعنكوليب. قصب الذرة يترك في زريبة كبيرة علفا للمواشي .تحصل الخلافات أحيانا في حدود الأراضي الزراعية أو إذا أكلت الأبقار المزارع. كتراية العظمة حيث تحتشد آلاف الصور عن الحب والكراهية والاعوجاج. البهائم والحقول والمزارع وهذا الكرم الفياض. شجرة الحضرة واللالوب والنبق والفريك. شهر يونيو ورائحة الدعاش والشعب النابت. شوقارة. ولسان الطير. والتمليكة. أم سليلو والتبر. والقطارات تطلق صافراتها وابقار ترعي لوحة من المناظر الخلابة. الأشجار والحشائش ورائحة برم الطلح وفراخ الطيور بدأت تتعلم الطيران.
كان لابد من الوداع. لحظات النشوة الحقيقية أن تكون هناك. حيث كتراية العظمة. الإحساس بالسنوات الزاهية في بحر علوم. وتعود للضجيج. أيام مثمرة كطماطم الله كريم. بلد إذن من العودة لتنصت بعمق لتلك الاصداء وتستنشق الروائح العطرة لتستعيد مزيدا من النقاء والتوازن.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!