خطوة واحدة( الفصل الأول ) من رواية المثلث المقلوب للروائي الأردني محمد ارفيفان عوادين

|
أليسَ من الممكنِ تَجاوزُ مسافاتٍ عفا عليها الدهرُ؟، ونختصرُها في خطوةٍ متسارعةٍ تعيدُنا إلى سنينَ مضتْ، وبادتْ، في خطوةٍ نَحوَ الوجودِ تَبوحُ في جوفِ الفضاءِ المُتضاربِ على آهاتِ الشعوبِ التي فقدَتْ في لحظةٍ غامرةٍ مصداقيّةَ الإنسانِ، لكنّنا نصبو إلى الجيلِ الذي يحنو على خيمةِ العطاءِ في بصماتٍ مضيئةٍ نابعةٍ من نجمةٍ تغوصُ في بحرِ العطاءِ،بقاربِ النجاةِ، الذي يتهادى خَجِلاً على صفحاتِ الماء حاملاً أشرِعتي المليئةَ بالحبِّ والوفاء؛ كي تحطَّ هادئةً وادعةً على معشوقةِ قلبي، تُسقي نبضاتُهُ لُقاحَ الحبِّ، ورحيقُه فوقَ أرضٍ سمراءَ تتوقُ إليها عقاربُ الزمن، تُعانقُها، وتعانِقُ فضاءَ الكونِ في عَفْويّةٍ مُطلقة.
تربّعنا على عرشِه حين كنّا صغاراً، واليومَ نقرأُ مفرداتِ الحياةِ بعيداً عن الكواسرِ التي تحومُ حولَ الآخرِ الذي يُحاولُ العبثَ بغربلةِ الهواءِ، فرائسَ إغواءٍ تأرجحَ نورُها وظلالُها بعيداً عن خواطرِ الناسِ، الّذين يتيهونَ في حضرةِ الضوء، ويتلاشَوْنَ يوماً ما،في مراحلِ مسيرةٍ يشوبُها عوائقٌ كثيرةٌ على مسيرةِ عالمِ الحياةِ، منذ البدءِ استعداداً للغوصِ في هذه الدنيا، حتّى نفادِ عطائه، والتقدمِ إلى الأمام نحو مسيرةِ الخلودِ في عالم النسيان.
فمعالمُ التشكيلِ في مراحلهِ الأولى من عطاءِ الإنسان، وجهدهِ،في بناءِ الجيلِ الصالحِ ببصماتٍ مضيئةٍ، تتركُ أثراً على الحياةِ الإنسانيةِ إلى عالمِ الوجودِ خلال سفرِه الغامضِ ، فما الحياةُ إلا مرحلةٌ يسيرةٌ على هذا الكوكبِ المُضطرب.
عالمُ الرحيلِ تَحُفُّ جوانِبَهُ مُعطياتٌ كثيرةٌ عايَشَها السلفُ السابقُ مُنذُ بدءِ الخليقةِ، حيثُ يبدأُ الإنسان رحلةً سريعةً، وينتهي بفراقٍ عميق، ولسبات تنتظره ساعةٌ إيمانيّةٌ حين يُنفخُ في الصورِ ، فيتجلّى ما في القبور , وينسى كلُّ إنسانٍ المقربين منه.
*

نرى في واقعنا تناقضاً هائلاً على عَيِّنةٍ تمسّكت بقشورِ الحياةِ، وابتعدتْ عن القيمِ الإنسانيّةِ، التي غُرِسَتْ في أفكارنا مُنذُ الصغر، وحتّى الكِبَر، الذي تجمّلنا به خلافاً عن مكوناتِ هذه النفس ، التي احتوت كثيراً من الأمراضِ الفكريَّةِ، والمسلكيَّةِ التي تغوّلتْ على مُقوماتِ الحياة.
خَفَقانُ قلبي يهيمُ كلّما أقْبَلت الحياةُ على مدارِجِها، تَفوحُ عطاءً باهراً أمَامَه، وما هي إلّا لحظاتٌ تسارعت فيه نبضاتُه ممزوجةً في أفكارِه، تلهثُ إلى بشرى غامضةٍ تحمل في ثناياها فرحةَ المستقبل، يَدْفَعُ نظرَه في عَنان السماءِ؛ ليرى بصيصاً من الفرح، يَمُدُّ شُعاعاً جميلاً على ظلِّه.
هامَ وليدُ بأفكارِه ، وفي جَنَباتِه تبتسمُ بشائرُ ليالٍ أَشْعَلَ فيها زهرةَ فِكْرِهِ في البحثِ والقراءةِ؛ لينالَ رتبتَه التي تبدأُ في إنهاءِ مرحلةِ الدراسةِ الثانويّةِ, إلى مرحلة الغوصِ في أعماقِ العلم بجميع مناحيه الأدبيّةِ والعلميّةِ ، فَكانَ له ما كَانَ من النّجاح، الّذي شَدّ من أزرهِ، وَمَنحَهُ قوةً شبابيّةً أَسْدَلَت فضاءَها على ذلك الأب الحاني،مُهَرْولًا مُتقدّماً نحو المدرسة ، الّتي تحْملُ تباشيرَ النجاح، دَنا ثم دَنا, وإذا بخيوطٍ تنطلقُ عَبْرَ فضاءٍ رحبٍ على مسامِعِهِ , عندما لامست قَدَماهُ عَتَباتِ الإدارةِ المدرسيّة ، انعكست ألوانُ الطيفِ على بَابَه مقتبساً جَمالَها من نقاءِ السماءِ بين فصولِ الصيف ورياحينِ الربيعِ ؛ توجَّهَ مباشرة إلى مديرِ المدرسةِ، الّذي أطلّ عليه ببسمةٍ مليئةٍ بالتبريكاتِ والتباهي بالنتائجِ التي نالها وليد بمعدل تجاوز 85%، قَفَزَ قلبُ أبي الوليدِ بقبلةٍ أبويّةٍ، أفردت نسائِمَها عبَقاً فوّاحاً على ذلك البيتِ المتواضعِ الّذي نشأ فيه وليد, وأبدعَ فيه ، وبرزتْ مواهبه في عطائِه، حيثُ أُضيئَتْ شموعُ الفرحِ ، وَتَهدّلَتْ دموعُ الوالدةِ فرحاً بمن أرسى دعائِمَ الفرحِ في هذا البيت المتواضِع الكبيرِ بوفائه، شاهد زوجتَهُ شاخصةً بعينيْها نحوَ باحةِ البيت الخارجيّةِ ، أفردت ذِراعيها استقبالاً لفرحة النجاحِ التي تهلَّلتْ على قَسَمات وجهِ أبي الوليد، حين أخبرَها بنبأِ النّجاحِ لابنهم الغالي وليد، وفي زاويةِ الغرفةِ تراءى إلى أبى وليد بدراً مُضيئاً؛ عندها انسلخت عنه الهموم والأثقال، التي كانت تُعَشْعِشُ بفكرِهِ في لحظاتِ الانتظارِ، التي أخافَتْهُ أن تُسَابِقَ والده, وتُبعِدَ عنهُ لذةَ النجاح، كان يَطْرُقُ نظرَهُ بعيداً.
*
عيون أهلهِ الرابضةِ على جَمْرِالانتظار، خوفاً من كلمةٍ تؤدّي إلى يأسٍ بحياةِ الّذين أفنوا عُصارةَ حياتِهم من أجلِ تلك اللحظات، فجأة.. سُمِعَ دويٌّ يشوبه الفرح والحزنُ، تَقدّم وتَقدّم بين الزغاريد ، وأصوات الفرحةِ التي غطت أرجاءَ البيت.
الأمّ الرؤومُ تَطيرُ فَرَحاً ، رافعةً يَدَيْها تُناجي خالِقَها بمفرداتِ الشكر بنجاح وليد، لكنَّ حَشْرَجةَ كلماتها اختلَطتْ بدموع فرحتِها، أيقنَ وليدُ بأنّ أسرَابَ الهدهد تُغرِدُ تُحلقُ, تُغطّي الفضاءَ طرباً, وهي تَزُفّ أغاني النّجاح، حتّى فَاحَ الصباحُ برونقِه، يَحمِلُ نبضَ الحياةِ، ونمنمةَ السماءِ تُناجيهِ، وتَهْمِسُ داعيةً إيّاه: إن الله لا يُضيّعُ تَعبَ مَن بَحثَ وَجدَّ واجتهد، أمُّه تبكي فَرَحاً ، أبوه يزهو فخراً واعتزازاً، وعيونُ العائلةِ تلوّحُ بأنظارها معانقةً أشواقَ الفرح.
فقد حصد ثمرةَ اثنتي عَشرَة سنةً من الدراسة كَتبَ بيدَيْهِ وَرسمَ طريقَ المستقبلِ إلى حياةٍ أشْملْ.
عَادَ بدورةِ الحياةِ إلى أيّامٍ مضت، حينَ كانت والدتُهُ تحمِلُ بيديها الطاهرتيْنِ كوباً من القهوةِ؛ تُقدّمه لَوَلدِها بين الفيْنة والأخرى ، حين تستشعر غلبة الإرهاقِ والتعبِ عليه ؛ ليبقى نشيطاً مقترناً مع صديقهِ وجليسهِ في رحلة الدراسة، (ليالٍ وليالِ مرّت) استطاع فيها أن يتجاوز هاجس الأرق، كيف لا.!، وكلُّ شيءٍ مُتاحٌ لهُ من والدتهِ التي ما بَرِحْت بابَ غُرفتِه، وهي تقدِّم له ما يريد ، موفرةً له أفضلَ وسائل الرّاحةِ، وأشواقها مبثوثة متواصلة بلا انقطاع لله مع كلّ نَفَس من أنفاسها؛ بأن يحتضنهُ مركبُ النجاح.
ما إن لاحَ مساءُ اليومِ الذي ظهرتْ فيه النتائج، حتّى تزَيّنَ البيتُ بجميع ألوانِ الفَرحِ والسرورِ بالنجاح الّذي حقّقه وليد، الكُلُّ منشغلٌ، بعضهم يُرتّب أعلامَ الزينة، وآخرون الحبالَ المضيئةَ، والأهلُ يَخُطّونَ عباراتِ التَرْحابِ بالضيوفِ المهنئينَ، يتقدَمَهم عازفُ المِجْوِز (المزمار)، وفتياتُ الحيِّ يقرعن على الدّف بأغانٍ مميزةٍ موشحةٍ بمفرداتِ البهجة.
وعلى الجانبِ الآخر فتياتُ الحيِّ الصغيراتُ والكبيراتُ في حلقات تتمايل أجسادهُنّ كأشجارٍ ربيعية فاحَ عِطْرُها تبريكاً وتهنئةً بالنجاح ، الّذي نَالَهُ وليد، هذا الفَرحُ منحَ شبابَ الحيِّ حوافزَ حيث تمنّى كلُّ واحدٍ منهم أن يكون وليداً, لِمَا نَالَه هذا.
*
الفتَى الشاب نال من تقديرِ ذويهِ، وجيرانهِ، فكان مثالًا يحتذى من شباب القرية؛ مما أعطاهم جرعةً هائلةً من الجدِّ و المثابرة ، والإرادة والتصميم ؛ فتعلموا منه رسمَ وتشكيلَ رؤيةِ المستقبلِ بأبهى الألوان .
حول بيته كانت الأجواءُ باسمةً, والسماءُ نقيةً صافيةً, والنجومُ تَشِعُّ أضواؤُها؛ مما مَنحَ المهنئين إطالةَ فترةِ السمَّرِ في هذه الأجواءِ العائليةِ الحميمةِ ، والأحاديثِ الجانبيّة إلى ما بعد منتصف الليل , التي لم تخلُ من قصصِ التشجيعِ من الكبارِ لِمَنْ هم في سِنِّ الشبابِ ممزوجةً بفرحةِ النجاح ، وإكرامِ الضيوفِ من جميع أبناءِ الحيِّ والأقاربِ.
كلّما أبدى أبو الوليد وعائلتُهُ الصَّدْرَ الواسع الحاني؛ لما شاهدَه من مناحي التعاون والفَرحةِ لهذه اللحظاتِ السعيدةِ التي خَيَّمَتْ عليهم وجَالَتْ في جوانبه جماليّات النجاحِ بعد نهاية الحفل انشرح صدره.
وأخيراً ارتضى الأهل أن يُكمِلَ وليدُ دراستَهُ الجامعيةَ في يوغسلافيا،ليَنال شهادته منها ، ويستطيع فيما بعد تحقيق تطلعاته العلميةِ المستقبليةِ، والعودة إليهم ويقوم على خدمة مجتمعه . وما أن لَاحَ الفجرُ حتى استيقظ وليد بتجهيز نفسه وأوراقه ، والإسراعِ إلى الدوائر الحكوميّة ، لتصديق شهادته والأوراق المطلوبة، بعد أن أنهى تصديقها من وزارة الخارجيّة، سافر برفقة والده إلى دمشق لتقديم طلب إلى سفارةِ يوغسلافيا للحصول على قبول دراسيٍّ من إحدى جامعاتها ، وتأشيرةِ الدخول.
دخل مرحلة الانتظار وقساوتها بعد عودته من دمشق ، كلُّ صباح يتأمل جهاز الهاتف الصامت، كلّ رنين له من أي متّصل تتلهف نفسه إلى مكالمة من السفارة ، أفرادُ العائلةِ يتراكضون جميعًا للردّ على المُتّصل ، استنفار ملحوظ بتوتره على مدار الساعة سيطر عليهم، ذات انتظار ولهفة ؛ جاءت المكالمةُ بردًا و سلامًا على البيت، الذي اكتنفتهُ فرحةُ المسافر ووداع الأهلِ والأصدقاءِ، قبلَ أيامٍ من السفرِ، حيث ضَمَّ أرجاء بيتهِ لفيفًا من الأهلِ والأصدقاءِ المقربينَ يتبادلونَ المفرداتِ الغامرةَ بالنصائحِ والتمنيّاتِ لوليد.
في سهرة دامت حتى بزوغَ الفجرِ , فتَصافحتْ الأيدي توديعاً للمسافر، عدا شخصين من أقربِ الأصدقاءِ على قلبه، أبى إلّا أن يرافقاه صباحاً ؛ ليستهل عِطْرَهُ بنظراتِ محبوبتهِ حنان بناء على موعدٍ مُسبق تحدّد الساعةَ السابعة بجِوارَ مدرستها ، علَّهُ يكون اللقاء القريب، ولم يعلم بأنه الأخير.
*

عيونٌ حَلَّقتْ إلى ماضٍ حين التقاها ذات صباح، في الطريق تَزُفُّها الأزاهيرُ، تغمُرهُا خَفَقاتُ الانتظار للقاءِ الأحبة هناك ، رَفْرَفَ فؤاده ، كاد أن يطيرَ من بينِ أضلُعِهِ حينَ رآها قادمة ممشوقةَ القوام، تتمايل كحوريّة تتقدّم الهُويْنَى بخطواتها البطيئة، اقتربَ القادِمُ، تلاقت عيونهما، تنغرس كلّ منهما في وجه الآخر متأملة ، والتقت خفقات القلبين بقوةٍ جارفةٍ، وبعفوية .. تاهت المفردات، وغابت عن ناظريهما،فكان حوار الدموع مع صمتهما المُطبق، فتحترق الآهات الحرّى بأنفاسهما صاعدة هابطة تتلوى، ختامُ قُبلة الوداع، وانطلق كلّ منهما لوجهته دون التفاتةٍ للوارء ؛ كي يلمح الآخر المنطلق بخطواته لوجهته.
بينما كانت لغةُ الأيادي بركاناً ثائراً بين حبيبين ، انتقلت عوارضُه إلى أجسادٍ مرتعشةٍ، تزيدُها اهتزازاً للمكانِ والجسدِ، ورغم ذلك استجمع العاشقان قوة التنهدات والآهات إلى مسيرةٍ حَلَّتْ عليهما في لحظةِ دامت قُرابةَ نصف الساعة.
لكنها في ذاكرتهما ومضة عين فتحتها رعشة اليقظة حين أشارت إليها زميلتها باقتراب موعد دخول ساحة المدرسة، التي اكتظت فيها الطالبات، منهنّ من كنّ في حديث جانبي، وبعضُهنّ كُنَّ يشددن نظراتِهِن على صفحاتِ الكتب يستخلصن جدوى المعلومات.
تقدمت حنان ترافقها صديقتُها، لكن فِكْرَها وومضاتِ عيونها تنظرُ إلى بعيد، كانت قبل لحظات زهيرةَ القلبِ، ومن بعيد ما زالَ وليدُ واقفاً في مكانِ ذكرياتٍ؛ سيصبحُ فيها لاحقاً سيرةَ وداع، تُخلِدهُ آهاتُ المحبين حين استذكرت صوتَ وليد ، قبل الوداع قائلاً:”عهدي لكِ سأبقى أتنفسُ عِشقَ حياتكِ ، وحُبَّ جمالكِ، وسأبقى على العهدِ  أتنسّم أنفاسَكِ على مدى الأيّامِ، أنتِ كما أنتِ النقيةُ الطيبةُ”.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!