فكان بها حتفه!/ بقلم:مختار ناجي(اليمن)

عاش مع الكتب
جعلها الصديق والأنيس
نشقَ ريحها في أوساط الليالي
وأسندها لصدره أياما طويلة في حين ظل ظهره بلا سند
رأى في الحروف رفيقا نعم الرفيق فأقام معها عقدَ صلة ممتدة حتى الموت
وألفى في السطور أسمى معاني الود فودَّها وِدَّ الحبيب حبيبَه
وما رضي بغيرها بديلا
بقي مع الكلمة يُسارّها وتُسارّه ويناجيها وتناجيه
انسلَّ من هذا العالم الغارق في الأنانيات
والغاطس في وحل الأثرَة والضياع وعبادة الذات
وأوى إلى معبد الكتاب وفردوس
الجملة
فخاطب العقول وخاطبَتْه وحادث القرائح وحادثَتْه وشاجى الخبرات والتجارب وشاجته
وطارح الأفكار والمشاعر وطارحته
فهو وحيد في الظاهر لكنه في الحقيقة محاط بألف شخصية وشخصية
وهو معتزل على ما ترى العيون لكنه بمرايا القلوب في حشْدٍ حاشد من الإبداعات والعبقريات والروائع
حوله الكتب
عن يمينه وشماله
ومن أمامه ومن خلفه
فهو يسامرها حتى الفجر
وهي تمنحه الغذاء الحقيقي
وتهبه الفوائد الجمة والمعارف النادرة
فَرّ من زيد ومن بكر ومن فلان وفلان
واستقر مع هذه الكائنات الروحانية الفريدة
فلا يرى منها إلا الوفاء ولا يلقى إلا الحب
ولا يُقابَل منها إلا بالطِّيبة والحنان والأمان
فما له أذن وللناس ومتاهاتهم
وما له وللدينا ولذائذها
أبعد لذة الكتاب يتبقى في النفس شوق للذة؟!!
لعمري ما تذوق المتذوقون بعد حلاوة الإيمان أحلى من حلاوة كتاب
ولا أنس المؤتَنِسِون بعد مناجاة الله بشيء أُنْسَهم بكتاب
إنها اللذة التي تجلُّ عن الوصف
والأنس الذي يمتنع على التعبير
لذلك ولَّى صاحبنا هواه إليها
فما زاد على الأيام إلا حبا لها وكلَفا بها وإقبالا عليها
ما ملَّت أنامله من تقليب الأوراق ولا شبعت عيناه من التملي في السطور
يجد في التهام الموضوع من المواضيع شهية هي أشهى من شهية التهام الفالوذج بدهن الفستق
وفي صرير الطروس نغمة هي أمتع في مسمعه من نغمة العيدان حركها موسيقي بارع
وفي عناق المجلدات
طعما هو أطعم من عناق الغيد الحسان
وما زال يكبُر على ذلك حتى استغنى بهذا الشيء عن كل شيء
فهو رفيقه في منشطه ومكرهه وفي صحته ومرضه
وفي حله وترحاله
فكان نتاج تلك الصحبة الصادقة العامرة لسانا فياضا بالفصاحة وذهنا سيالا بالإبداع وكتبا عبقرية أملاها عقله العبقري
فهو في العربية أمير الكُتَّاب إلى يوم الحساب
لا ينازعه على تلك المرتبة منازع
وظل الكتاب متلصقا بيده حتى لكأنه جزء منها
ويطول عمره ويفترسه المرض العضال افتراسَ الوحش الكاسر لفريسته بعد جوع
وما زال المرض يُعْمِل فيه أنيابه
حتى أقعده عن الحركة تماما
إلا حركة خفيفة ليست بشيء
وظل على مثياقه الغليظ مع الكتاب
لا يجد الراحة الحقيقية إلا في رحابه الفردوسي البهي
وفي ذات سَحَر حزين
اشتاقت نفسه للكتاب
وهي مشتاقة إليه دائما
فتحرك حركته الخفيفة على ألم ووجع هائلَين
ومد يده قاعدا ليتناول كتابا من مصفوفة كتبه التي تحيط به من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم
فسقطت المجلدات على جسده النحيل المشلول المثخَن بالعلل
فكان بها حتفه
فيا رحمة الله عليه
عاش بين الكتب وقضى بين الكتب
إنه…
إنه….
إنكم تعرفونه جيدا
إنه
أبو عثمان الجاحظ
فهل من متأمل؟!

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!