آلام ذئب الجنوب/ بقلم. الروائي وائل الزهراوي. سوريا

 

(نصوص ميتاروائية)

……

آلام ذئب الجنوب

بقلم. الروائي وائل الزهراوي. سوريا

 

‘‘ هكذا تحدثتُ عنك بوصفكَ جمعاً وليس فرداً يخطئ ويصيب وقراره الفردي ليس قرار خلاصه وحده

‘‘أنت الفرد الحشود‘‘ وأنا مكتظٌ بك كحافلةٍ تتسع لعشرين آدمياً فتأخذ حصة خمس حافلات قديمة وتموت في منتصف الطريق ‘‘ محمد المطرود.

 

_ أعتذر عن إبداء رأيي في كثيرٍ مما يصلني لإبداء الرأي . أتذرع مرةً بضيق الوقت ومرةً بأني لا أقرأ أدباً من صنفٍ محدد . أنا الذي بات حضوري لايثير أدغال الكلمات .

إلى أنَّ آتى ذاك المساء حيث كنت غارقاً في هدوء سديم تعاظم خلف تيك الجدران الصخرية لهذا البيت الأثري المُطلِّ على بحيرةٍ هولندية منسيةٍ . كان قد مضى على لقائي بالمطرود أيامًا فقط. حين تعارفنا أول مرة، لم أشعر أنه آخر جمعتني به صدفةٌ ثَمِلةٌ أبداً .

لقد ملأني وعيٌ أن هناك أحدٌ ما تسلّل من داخلي ليلقي علي التحية . رجل كان غافياً قبل ولادتي في عَـدمي .

حين رأيته يُخرج كتابه ليهديني إياه ملأتني خشيةٌ مسجاة في تابوب الريبة . لا أريد أن أقرأ لهذا الرجل ما يكون سُلماً لينحدر به إلى حيث آلاف المكررين والمكررات .

الحالمين والحالمات . أولئك المتخيلين أن الكتابة كلمات تتابع على السطور . كأرصفة الطرقات . تلغي بعضها بعضاً .

_ كنتُ أرقبُ سِرب طيور حطًّ على ضفةٍ موحلة . شربوا وتناولوا طعام الغداء وبعضهم تناكحوا، ثم حلّق أولهم فتبعهُ السرب كله؛ فتبعتهم محاولاً أن أختبر أقصى قوة نظر عندي، حتى أخذوا يرتدون خفاء الفضاء البعيد .

فتحت حقيبتي وتناولت كتابهُ مرتاباً . ماذا سيكون قد كتبَ هذا المطرود . ورحتُ أقلب الكتاب . يبدو ككتاب مدرسي لمادةٍ لن يعاقبك أحدٌ على الرسوب بما جاء فيها .

_ العنوان ملتبس ‘‘ نصوص ميتاروائية‘‘.

_ كيف يمكن أن نفهم معنى الميتاروائية؟

إنها بالحقيقة كأن تقف وأمامك مرآة وخلفك مرآة , ثم تبدأ بمراقبة تكرارك اللامتناهي في آلاف الانعكاسات . ها أنت قد تحررت من كونك واحدًا . ها هناك أنت وافتراضاتٌ كثيرة تدعي أيضاً أنها أنت .

_ هكذا يبغيك المطرود . أن تتوالد، وأن تراقب ذاتك في بال ذئاب “سِنْجار” البعيدة .

_ رحتُ أقرأ في الكتاب، والوجل أخذ يذوب بين أوراق الكتاب الأبيض . ها هنا كتابٌ شاخَ قبل أن يولد . توالت الصفحات وأنا أزداد نهماً لما وراء الكلمات .

بعد ساعة تلاشى الكتاب من بين يدي . استحال لسهولٍ أبدية العويل، ومساءات ممطرةٌ أحقاباً تحمل لغات لا أعرفها، لكني أدركها هكذا دون أن أتهجّاها .

_ وذئب الجنوب راح يلوح في كل اتجاهات الكبت . حاسر القلب دون فريسة يطارها . إنه يطاردني أنا وحدي. وبدت السطور كأنها تعدو هي الأخرى خلف المعقول الذي ولى هارباً . أيها المطرود كيف امتطيت الكون مستحيلاً لتُشهر في وجهه ماوراءك أنت أيها الرجل الوطن .

سكنتني هواجسٌ أعادت في داخلي صدى “الأهتم المنقري” . وخيالاتٌ تراكمت فوق طواحين “الدونكيشوت” وبقايا محبرة “فولتيير” والكثير من أمسيات “نزار” والقليل من حزن “سبينوزا” .

رأيتني داخل سطور الكتاب، وأنا أنتمي للكلاب التي يرسل لها المطرود سلاماته المسكونة بالحنين . وعرفتني و أنا أصافح العروبة وهي تتمرغ في طيب البداوة وقوافل الهال المسافرة على شفاه إمرأةٍ مشرقية .

_ أيها القارئ المجهول خذ ما أتاك :

ألام ذئب الجنوب

سيوردك آلاء الأوائل، ويسبغ عليك نعيم السحر المراق على أعتاب الأدب المفقود. ولن يصلك بدول الخلود إلا وهو يقطع مع ممالك التكرار . ويذيقك من حلاوة الرغبة اللائبة المترددة في أقصائك .
كان بودي والله أن أكتب عنه أكثر لكني كمن يبخل بثمالته حتى لا يجود بما لا يُعطى لآخر إلا بأن يذوقه بنفسه .
أيها المدعي أنك تكتب تعال ومرّ من هنا حيث بعض الخلود لعله يلامسك فينجيك من فناءك القريب .

_ ألام ذئب الجنوب كتابٌ كالحمأ المسنون، سيعيدك إلى حيث تشبه ذاتك حد التطابق، ويرسمك من جديد حتى تكون متأكداً بأنك تشبه من تكونه . ويأخذك إلى حيث السهول البعيدة البعيدة حتى تصل إلى أعمق مافي داخلك .

في سوريا لدينا سنجار وقاسيون وجبل البشري ومحمد المطرود . وكفى بهذا قولاً .

‘‘ أنا أوْسَم منك يا موت قليلاً , وأهزأ بك كلما مشيت خلفي، ووشيت بي لوحوشك ‘”.. المطرود.

 

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!