القلب لا ينسى أبداً للكاتبة: طفول سالم. سلطنة عُمان

لصحيفة آفاق حرة:

 

القلب لا ينسى أبداً

للكاتبة: طفول سالم. سلطنة عُمان

 

حسرة وقهر ودموع. يظن العقل البشري أن بعض المآسي لن تنتهي، وليس عليه سوى إعادة الذكريات مرارًا وتكرارًا، تخنقه الذكريات تارةً، وتارةً أخرى يضيع بين الأماني والأحلام، يتطلب جهداً خارقاً. إنه يحمل عبء العالم على أكتافه.

 

يقف مذعورًا من حُلُم مزعج غامضٍ لم تتضح رؤيته: “ثَمَّةَ طفلةٌ تقطف وردًا تجري حافيةً فرحةً بما في يديها، تطاردها بعض الأشباح الحانقة تنفخ نارًا من أعينها، كانت تطلق ساقيها للرياح أمام غياهب الماضي المرير، تسقط دموعها جزعةً بما يعصر قلبها، يرتطم كفُّها ببيضة هائلة في حجمها، فجأةً أبهرها سطوعٌ قويٌّ بين شقوق جدران البيضة، تغمض عينيها من هول السطوع، تجبرها أن تهرول مبتعدة، وما إِنْ حاولتِ الخروج من المكان؛ تَجِدُ بأنها في عالَمٍ ورديٍّ تمامًا، تُبْصِرُ ابتسامةً ناصعةَ البياض لامرأةٍ أربعينية، تَمُدُّ يديها نحوها”.

 

فَتَحَ العقلُ عينيه وأدركَ بأنه غَفَا قليلًا بينما ترك القلب غارقًا في سبات، تَنَاهَى عندئذ إلى مسمعه كلماتٍ تحمل بين طيَّاتها تحطيمًا لِلذَّات: “ليس هناك فنَّانٌ غيرَ وجهِكَ الغبي”! ظلَّتْ تلك الكلمات تتردد مرارًا وتكرارًا، في بادِئ الأمر حاول أن يطرد ذلك الحديث، فهو لا يأخذ كل كلمة منطوقة على محمل الجِدِّ. تظاهَرَ القلب بالنوم عندما نَكَزَهُ العقل ليسمع الكلمات؛ وَثَبَ العقل واقفًا على قدميه ونزل لمستوى القلب ووقف يحدِّق به ساخطًا: ما خطبُكَ هذه المرَّة؟ هكذا صاح به القلب مسنِدًا رأسه إلى جدران القفص الصدري.

تَهَدَّلَ فَكُّ العقل في عجب: لِمَ أنتَ في غاية البرود؟

حَدَّقَ القلب بنظرة تكسوها اليأس: “اِفْتَحْ تلك الصناديق المبعثرة وارْمِ بتلك الكلمات في أحدها”. لكنَّ نبرات العقل كان فيها من الخطورة وقوة الإقناع ما دفع القلب إلى عدم التغاضي عنها. أخذ القلب يفكر بصعوبة بالغة: “ما الذي سيحدث لو أنَّ تلك الروح لن تغيِّر شخصيتها؟” التحطيم الذي تواجهه من أقرب الناس يجب أن ينتهي! يجب أن تتجاهل كل ما تسمعه وتنهض بذاتها وترمِّم الجروح، يجب إبعاد كل هذا الكَمِّ الهائل من الطاقة السلبية، كل ما يفعلونه أنهم يتأكدون من تحطيمها..  وتكسيرها..  وتفتيتها تمامًا.

 

بعد منتصف الليل في تلك الليلة؛ كان العقل يخطِّط للقفز من فوق ذلك السياج الحجري الذي أُحِيطَ بالروح، اشتدَّتْ فيها رياح الذات التي تَأْبَى أن تقاوم التغيير الذي اقترحه عليها العقل، وأَخَذَتْ تعصف بجنون بالغ، تناهَى صوتُ الرياح إلى مسامع القلب، وعندما اشتدَّ هزيم الرياح؛ صرخ القلب بها:” اِهْدَئِي أيتها الروح واسمعي ما يحاول العقل قوله: أيتها الروح؛ إِنَّكِ تتمتعين بقوًى خارقةٍ”، عندما دوَّى الصوت عندها؛ كَرَّرَ العقل تلك الكلمات: “أليس هناك وَجْهٌ غيرَ وجهِكِ”؟ اشتدَّ غيظُها، وأخذتْ تعصف وتمطر وتبرق وترعد. حينها دندن القلب ببضعِ أغانٍ لرفع معنوياتها، ولَمَّا لم يفلح ذلك؛ رَكَّزَ العقل ببصره على الروح وهَمَسَ: “هيَّا أيتها الروح أَخْرِجِي أقصى ما لديك من قوَّةٍ.. اِعْصِفِي.. أَرْعِدِي.. أَحْرِقِي غضبَكِ واكْسِرِي القيدَ. ها هنا لا صوتَ، لا حركةَ، لا شيءَ!

كيف تأسِرُ قلبًا اعتاد التجوال بين الجبال والوديان حُرًّا؟! كيف تخنق حُلُمًا اعتاد أن يرفرف بجناحيه مع فراشات الأمل؟! كيف تُحَطِّمُ عقلًا اعتاد أن يرسم نجاحًا مع همسات الروح؟!

تُشَوَّشُ روحُكَ لتفقد الإيمان بقدرتها، يجعلونك مسلوب الإرادة ليحركوكَ كالدمية؛ ويتوقعون منك أن تنجز كلَّ الأعمال التي رسموها لك، يخططون لحياتك كيفما أرادوا، وينتظرون منك أن تتحمل سمومهم.

هل جرَّبْتَ أن تفرض رأيك أو أن تكون القائد لحياتك؟ هل شعرتَ بالعجز وتَوَتَّرَ قلبُك وتسارعتْ نبضاته ثم ضاقتْ نفسُك وشعرتَ بالدوار وروحُكَ تحترق؟ هل رأيتَ الظلام وأنتَ تقف في يوم مشمس ساطع؟ هل شَمَمْتَ رائحة حريق بين ضلوعك وأنت تَعْرَقُ خوفًا لا تدري ماذا تقرِّر أو أن تقول لا؟ هل ارتجفَ لسانُكَ وخُنِقَ صوتُك وبلعتَ زُقُّومًا وأنت تنتفض بكلمة لا؟ هل شعرتَ بالغرق وضاق صدرك لتلهث بكلمة لا؟

“إنَّ الله لم يخلقك لتشقى”! هكذا هَمَسَ العقل للروح، شهقت الروح مردِّدةً: “إنهم لن يتركوك حتى وأنتَ محطَّمٌ، مُهَشَّمٌ، غارِقٌ بخبايا روحك.. لن يشبعوا منك حتى إِنْ مِتَّ، لن يَدَعُوكَ وشأنَكَ!”

منذ تلك السنين حاولتُ أن أقاوم لكنْ أَجِدُ نفسي بلا حول ولا قوة مسلوبة الإرادة، كنت أرتعد عندما يأمرونني بفعل أمر لا يمكنني عمله، أحيانًا أُطْلِقُ سمعي لأسمع طرقات القلب:” هل ما زِلْتَ حيًّا؟! هل هناك نبضٌ خَفِيًّا؟ هل العقل ما زال يهمس لي؟ أين كنتما عندما أناديكما؛ أستغيث بكما؟ تَمُرُّ ساعات طويلة وأنا أحترق؛ لم تسعفاني ولم تهرعَاْ لنجدتي؟ تأتيان اليومَ تحاولان تغييري بكل بساطة؟!”

بين كومة الظلام والتهميش الروحي الذي حُوْصِرَتْ بها الذات؛ تلمع بذرة نور في قلبها تبصرها عيناها ويعكسها عقلها ليرسل إشارة تنبيه: “خَبِّئِيها”.. سوف نزرعها.. نسقيها.. نرعاها.. يجب أَلَّا تُظْهِرَها للعلن، اُحْفُرِي بين ثنايا تلك الروح وادْفِنِيها.. يجب أَلَّا تذكريها، فقط انْسَيهَاْ وسأعتني بها لأجلك” همس العقل. “هل ستثقين به؟! لقد خانَكَ عندما احتجتَ إليه!” هكذا صرختْ تلك الروحُ المهشَّمَةُ؛ لِيَمُدَّ العقلُ وريدَهُ إلى قلبها، “اِطْمَئِنِي سأرعاكِ؛ لكنْ أَمْسِكِي تلك اللسان، يجب أَلَّا تَشِيْ بنا.. هَامَ القلبُ ورَبَطَ حبالَ صوت اللسان لتكون مطيعةً وتَدْحَرَ الصَّمْتَ للأبد؛ إلى أَنْ يَأْذَنَ لها بالانطلاق!

 

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!