مقاطع من رواية “سائرون إلى هناك” د. عصام أبو شندي

لصحيفة آفاق حرة:

_______________

 

مقاطع من رواية

“سائرون إلى هناك”

د. عصام أبو شندي

المقطع الأول :
من بعيد وفي الأفق الأسود الممتد على وجه الماء المرعب، يقبل جسم أسود ضخم يقترب رويدا رويدا ولست أدري إن كان الجسم حقيقيا، أم إن ما بي من نعاس يهيئ لي أني أرى هذا الشيء، أم إنني أرى رؤيا مزعجة تولد فيها الخوف من أفق السواد الممتد أمامي، لكن الجسم يقترب بالفعل رويدا رويدا، وكأنه حوت أزرق ضخم يطفو على سطح الماء أو ظهر غواصة، مع سماعي لهدير المحرك أدركت الآن أنه القارب الذي ننتظره منذ الصباح، لقد قدم أخيرا وها هو ذا يتراقص والسماسرة يحاولون تثبيته على طرف الشاطئ، في المكان الذي كانت تربته طينية لزجة قبل اشتداد حركة الأمواج بفعل الريح العنيفة، وفعلا يتوقف القارب ويستطيع البحارة السيطرة عليه بشكل ممتاز .. لم يكذبوا علينا إذن !!
خلال لحظات كانت الأصوات المختلطة قد عادت لترتفع حدتها وتتمازج بحيث لا يفهم السامع معظم ما يقال حوله، وهنا ارتفع صوت أحد السماسرة بلكنة عربية آمرا وناهيا بانفعال .. إنه يأمرنا أن نبدأ بالصعود إلى ظهر القارب، لكن بالترتيب حاملين ما تبقى معنا من متاع خفيف ومهددا بأن أي متاع ثقيل سيرمى في عرض البحر .. وها هو ذا القارب تبدو ملامحه أمامي، إنه ليس قاربا بالمعنى الحقيقي للكلمة، ليس قاربا كالذي كنت أتصوره في مخيلتي، إنه عبارة عن بالون كبير قاتم اللون مصنوع من مواد مطاطية أو بلاستيكية أو ما شابه، إنه يشبه حوض سباحة كبير كالذي يجلبه الموسرون لأولادهم ويملأونه ماء ليسبح الأولاد فيه، وبين أطرافه حبال تشد بعضه إلى بعض، فضلا عن بعض إطارات السيارات القديمة المعلقة بجوانبه .

المقطع الثاني :
في هذه اللحظة أطلق أحد السماسرة عيارا ناريا في السماء فسيطر على الموقف إلى حد ما، لكن هناك بعض الأصوات لم يستطع إسكاتها، لأنها كانت تطالب بالتوقف لإنقاذ من سقط في الماء بسبب ما حدث من تدافع، لكن السمسار رفض ما أدى إلى ازدياد أوار الخلاف، فدخل الذي أطلق النار في عراك مع أحد الركاب، وسرعان ما أجهز عليه السمسار بعيار ناري أخرس الألسن عن أية كلمة أن تقال .. إذن فهؤلاء القوم يبدو أنهم يسيرون وفق مبادئ صارمة، حتى لو أدى بهم الأمر إلى القتل ! فمن يسقط لا أحد يلتفت له، وعدد الذين سقطوا في الماء كما أقدر لا يقل عن خمسة أشخاص ذكورا وإناثا، فضلا عن الشخصين المقتولين الآن في القارب، المطعون والذي تلقي رصاصة .
تم التخلص من الجثتين فأمسى عدد الذين التهمهم البحر حتى الآن خمسة أو يزيدون، وبذلك تحقق سوء الطالع الذي حدست به نفسي، عندما تخيلت كلاب البحر تسخر منا وتمد ألسنتها لنا منذ أقل من ساعة، إنه ليس سوء طالع بل واقع سيحدث حتما شئنا أم أبينا، ما دمنا نحن البشر الذين نركب فوق هذه القطعة من المطاط، ما دمنا رضينا أن نصبح ألعوبة في أيدي سماسرة أوغاد، يذرعون البحر ذهاب وإيابا يبتزون الناس، ليصل منهم من يصل إلى مبتغاه ويهلك من هلك، هذه الأنفس التي سقطت في الماء حتى الآن هي من ضمن من قدر لهم ألا يصلوا وقد يكون ذاك خيرا لهم .

المقطع الثالث :
نعم راح بعض الأشخاص يدخل في غيبوبة وبعضهم مات فعلا، فزاد الأمر سوءا على ما فيه من سوء ! إذ يتوفر لدينا الآن عدد من الجثث مسجاة في القارب، وإذن فلا بد من التخلص منها، والأمر في غاية السهولة، إذ لا حاجة لحملها إلى المقبرة، فنحن في مقبرة ولا شك، فكل ما هنالك هو قلب هذه الجثث في البحر، بعد تفتيش جيوبها واستخراج مع فيها من أوراق ثبوتية وأموال .. إنه لأمر غايته في السخافة، فماذا سيجدي الاحتفاظ بأوراقهم الثبوتية ! هل يؤمل من يستخرجها أن ينجو فيوصل خبر هلاكهم إلى حكومات العالم ! أو يوصله إلى ذويهم ! أما المال فاستخراجه من جيوبهم بهذه الصورة، هو سرقة مبسطة ومكشوفة ومشروعة وقذرة أمام عيون الناس .
طفت الجثث على سطح الماء حول القارب، هذه الأجساد الطافية في ملابسها الرثة مفروجة اليدين والرجلين والماء يتلاعب بها، والسواد الكالح يدمغ وجوه أصحابها، هذه الأجساد لأناس كانوا يعيشون بيننا قبل قليل، منهم من ترك أبقاره ومنهم من ترك أغنامه ومزروعاته وأمه وأباه وأولاده وزوجه، إلى غير ذلك الكثير من زخرف الدنيا ومتاعها، ودفعه القدر دفعا إلى هنا إلى هذا المكان ليموت في هذا الركن القصيّ من العالم .. أشعاره أغانيه أحلامه أعماله قذارته وكل ما كان ينطوي عليه، كل ذلك تحول إلى عفن على وجه الماء، فإن لم تأكله الأسماك سيظل الماء يدفع جسده حتى يلقي به إلى أحد الشواطئ، ليفوز أحد الصحفيين بسبق التقاط صورة لجثته المتعفنة على شاطئ من الشواطئ .

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!