يومَ ماتَ أَبي/ بقلم : سامي أبوبدر

لآفاق حرة

 

في مِثلِ هذا اليـومِ مـــاتَ أَبِي
وأَصابَ سَهمُ اليُـتمِ قلبَ صَبِي

وغَـدوتُ في الدُّنيــا بلا سَــنَدٍ
يَقـوَى بهِ ظَهـرِي على وَصَـبِي

أَمسَـيتُ مُرتـابَ الخُطَـا قَلِــقًا
وكأنَّمـــا أَمشِـــي على لَهَــبِ

مُنـذُ ارتقَـى والفَــرْحُ أَهمَـلَـني
والحُزنُ كلُّ الحُزنِ عَشعَشَ بِي

لكــنَّ لِي من نُــــــورِ دَعــوتِـهِ
لِي ما يُـــؤازرُنـي على تَعَـــبِي

ثِقَـــتِي بهــا ثِقـــتي بأنَّ لنَــا
رَبًّـا يُبـــــــاركُ دَعــــوةً لِأَبِ

فبِها تَهُـــونُ على الفتَى كُرَبٌ
وبها أَمُــدُّ إلى العُــــلا سَبَـبِي

وبهــــا أَبِـرُّ الشَّــــانِئـينَ وإِنْ
آذَوْا فلَيــسَ يَنـــالُهُم غَضَــبِي

ولهَـا أَدِينُ بما غَرسْـــتُ ومَـا
أَثمَــرْتُ مِن عِلـــمٍ ومِـن أَدَبِ

وكأنَّهـــا -إنْ لَـم تَكُـن لِأَبي-
بُشـرًى تُـؤَوَّلُ مِن حَديـثِ نَبِي

أما بعد؛

بَينما كانتِ الشمسُ تستعدُ للرحيلِ، وتتوارَى ببُطءٍ خلفَ السُّحبِ الداكنةِ، وترسلُ أشعتَها الأخيرةَ في ختامِ يومٍ شِتويٍّ باردٍ؛ لتحتضنَ الواجهةَ الغربيةَ لبيتِنا الريفيِّ، لا يفصلُ بينهُما سِوى مساحاتٌ شاسعةٌ من الخُضرةِ كأنَّها الجنةُ تُرتِّلُ أذكارَ المساءِ مُتأملةً سُنَّةَ الله في الغروبِ، الذي يُذَكِّرُ كلَّ يومٍ ويُنذرُ بأنَّ لكلِّ مُبتدَإٍ مُنتهًى، وأنَّ لكلِّ أجلٍ كتابًا.

لم يكنْ أحدٌ من المجتمعينَ حولَ البيتِ يهتمُ لأمرِها، أو يَتحسسُ دِفئَها، كعادتِه في أيامٍ سابقاتٍ، فجميعُهم قلِقونَ ومُرتابُونَ، ما بينَ غارقٍ في دموعهِ أو مبتهلٍ إلى ربِّه، أو ذاهلٍ عاجزٍ عن التصرُّفِ. الكلُّ الآن يُعطي للشمسِ ظهرَهُ غيرَ آبهٍ بها، والأبصارُ مأخوذةٌ باتجاهِ البيتِ، في تَرقُّبٍ حذِرٍ، أشعرُ معهُ بخوفٍ شديدٍ مِن أن يُفارقَنا أبي ويرحلَ، فما زِلنا صغارًا، ولا يَزالُ الأصغرُ (أحمد) رضيعًا.

كانَ أبي الذي يُصارعُ الموتَ منذ أسبوعٍ أَدْرَانا بأنهُ راحلٌ، وأنه قد دَنا الأجلُ، وأن المَلَكَ واقفٌ بالبابِ ينتظرُ إذنَ اللهِ بالدُّخولِ، ولمْ يعُد من الوقتِ ما يكفِي لِأَنْ يُحَدِّثَ أحدًا بشيءٍ، وكانوا قد نقلُوهُ إلى فراشِي الذي كنتُ أنامُ عليهِ مع أخِي محمود، ساعَدوهُ ليرقُدَ على ظهرِهِ مُطمئِنًّا، تُحلقُ عيناهُ في سقفِ الغرفةِ الذي يحولُ بينهُ وبينَ السماءِ التي يسمعُ _وحدَهُ_ نداءَها، والليلُ مُقبلٌ بظلامِهِ، فيَلمحُ أوَّلَهُ القادمَ على استحياءٍ من النافذةِ الشرقيةِ للغرفةِ، يُطاردُ آخرَ خيطٍ لِضَوءِ آخرِ نهارٍ أَبصَرَتهُ عَيناهُ.

كنتُ أجلسُ عن يَسارِهِ مُحدقًا بصري في عَينيهِ، أشعرُ ببُرودةِ كفِّهِ اليسرَى الممدودةِ إلى جوارِهِ، ولا أُدركُ أَنه الآنَ في لحظاتِ احتضارِه، وأنَّ نظراتِه إليَّ هي نظراتُ وداعٍ أخيرٍ إلى فراقٍ أبديٍّ، وأنَّ هذا سيكونُ آخرَ ما أراهُ منه، لم أكُن أدركُ كلَّ ذلك، لكنَّ للموقفِ هيبةً وجلالًا لم أعهدهُما من قبلُ، كان عمِّي (إبراهيم) جالسًا يبكي ويئنُّ أنينَ المشفقِ على أخيهِ التوأمِ، بينما يقفُ عمي (حامد) على بابِ الغرفةِ يُردّدُ الشهادَتينِ، قبل أنْ يخرجَ قاصدًا قريةَ (أبوغنيمة) لاستِقدامِ طبيبٍ أو جَلبِ دواءٍ،  ويدخلُ عمي (أحمد) فجأةً ويقفُ باكيًا قائلا (أنا سمعته بينادي عليا).

بدأَ والدي يُنازعُ سكراتِ الموتِ، فتدخلُ ابنةُ عمِّهِ التي جاءت من قريةِ (التشريقة) المجاورةِ، باكيةً مُعتذرةً عن الغيابِ الطويلِ فتَنتابُه صَحوةٌ ليقولَ لها: (إِنتي لِسَّه فاكرة تِيجي تِشوفيني ؟!، ما خَلاص!)، لتنهار قائلةً: (ما أعرفش إنك تعبان قوي كدا ياأخويا) ليُزلزلَ البكاءُ أركانَ البيتِ، وتختلطَ معهُ هَمساتُ التَّشهُّدِ، وعباراتُ التَّصابُر  والتّواسِي، في مُكابدةٍ غيرِ مُجديَةٍ للوَجعِ المتنامِي، بينما تجلسُ أُختُهُ الوحيدةُ عن يَميني، في مُقابلِ رأسِهٍ، وتَمسحُ على جبينهِ في أسًى وإشفاقٍ، وعن يمينِهِ كان يجلسُ خالُه (فُتوح) يُبلِّلُ شفتَيْهِ بقطراتٍ من الماءِ، ويُلقنُهُ الشهادتينِ في ثباتٍ لم يَتحلَّ به أحدٌ سِواهُ، لِيردِّدَهُما أبي خلفَهُ بصوتٍ مَهموسٍ، ثم يتوقفُ همسُهُ فجأةً، ويَشْهَقُ شهقَةً عميقةً طويلةً، بصوتٍ مرتَفعٍ، ثم زَفرَها؛ ليَسكنَ على إِثرِها نبضُهُ، و تتوقفَ أنفاسُهُ، وتفيضَ روحُهُ إلى بارئِها، ويُغمضَ خالُهُ عينَيهِ، وأعجزُ  أَنا عن كلِّ شيءٍ إلا البكاءَ، كحالِ كلِّ من كانَ في الغرفةِ وخارجِها داخلَ البيتِ، أو في الجُرنِ الذي كانَ قد امتلأَ بالأقاربِ والجيرانِ، والكثيرِ من أَهلِ قريتِنا والقُرَى المجاورةِ، وإذا بأحدِهم يجرُّني بعيدًا عن أَبي، لأجدَني في غرفةٍ أُخرَى بين ذراعَي عمِّي الأكبرِ (محمد)، وبجوارِه يجلسُ ابنُ عمَّةِ أبي (عبدالرشيدِ) يَبكيانِ، وبينما كنتُ مَصدومًا منهارًا يمسحُ عمِّي محمدٌ على رأسِي قائلاً (ماعلش يا ابني)، وظلَّ يكرِّرُها حتى أَمسكَ أحدُ الحاضرينَ بيدِي ليُخرجَني إلى خارجِ المنزلِ مواسيًا لي لعلِّي أَهدأُ، فجلستُ بجوارِ شجرةِ كافورٍ أمامَ المنزلِ، وإذا بسيارةِ عمِّي الحُسيني مُقبلةٌ، فيُبادرُ واحدٌ من الناسِ بالوقوفِ أمامَها فأوقفَها، ولم يَكَد عمِّي ينزلُ مِنها حتَّى قال له الرجلُ: (البقية في حياتك يا حاج)، ليَترجَّلَ مكسورَ الخاطرِ إلى جانبِ الجدارِ الشرقيِّ للبيتِ، ويجلسُ منهارًا من هولِ الصدمةِ، وقد وضعَ يديهِ على رأسِهِ،  وكانَ قد خرجَ بسيارتِهِ منذُ ساعتينِ تقريبًا ومعهُ (إبراهيم) ابنُ عمِّي الأكبرِ، لجَلبِ بعضِ الأدويةِ في مُحاولةٍ منهُما لتخفيفِ آلامِ والدِي، وما كادَ إبراهيمُ يسمعُ عبارةَ الرجلِ حتي نزلَ من السيارةِ فاقدَ الوعي، ليُلقِيَ كيسَ الأدويةِ على الأرضِ، وسَقطَ مغشيًّا عليهِ.

منذُ تلكَ الليلةِ القاسيةِ الخالدةِ في ذاكرتي؛ شعرتُ بالوحدةِ، ومضيتُ إلى مُعتَركِ الحياةِ بلا سَندٍ ولا ناصحٍ أمينٍ، ولم يبقَ لي من أَبي إلا ذكرياتٌ نادرةٌ، فلم تُمهلْنا الأيامُ لأنعمَ بصُحبتِهِ كثيرًا، أو أتعلمَ مِنهُ كثيرًا، لأحكيَ عنهُ كما يحكِي الأصدقاءُ عن آبائِهم، وعن ذِكرياتِهم معًا، وإن كنتُ أَوْفرَ إخوتِي حَظًّا.

وتبقَى دعوةٌ والدِي لي (الله يسهِّلك يا حِسين يابْني) ، التي كانت آخرَ ما خاطبَنِي بهِ؛ أعظمَ إرثٍ ورثتُه عنهُ، لِتأخذَ بيدِي إلى الرُّشد والنُّضجِ مبكرًا، فظلَّلتنِي ببَركتِها، ولا تزالُ تُضيء دُروبي، وتفتحُ لي أبوابَ الخيرِ في الآفاقِ، وفي قلوبِ الناسِ منذُ مَنحني إياهَا وهو علَى فراشِ الموتِ؛ ليطمئِنَ بها فُؤادي، ويَشتَدَّ بها أَزري، وأَنسبَ إِليها -بعدَ اللهِ- كلَّ فضلٍ نالَنِي أو نِلتُهُ.

قبل وفاتِه بيومينِ، خرجَ بعدَ العصرِ بوقتٍ قليلٍ ليَجلسَ غَربيِّ البيتِ، سَاندًا ظهرَهُ إلى جدارِهِ، مُستقبلاً الشمسَ راغبًا في دِفئِها، ومُودِّعًا إياهَا، في آخرِ لقاءٍ بَينَهُما، كنتُ أجلسُ عن يَمينِهِ، فنظرَ إليَّ نَظرةَ إشفاقٍ وقلقٍ بادِيَينِ في عينَيهِ لكلِّ ذي نظرٍ، ثم التَفتَ يقولُ لِمنْ حولَه: (زَرعت ومِش هَألحَق أَحصُد ياوْلاد)، كُلمَا ذكرتُ تلكَ النَّظرةَ، وتلكَ الجملةَ، شَعرتُ بسكِّينٍ حادٍّ يُمزِّقُ قلبي، وأعجزُ عن حَبسِ الدموعِ في عَينَيَّ، أو مُقاومةِ الشعورِ بالحسرةِ، تلكَ النظرةُ، وتلكَ الجملةُ، كانتَا اختِصارًا لقصةِ حُلمٍ يُوشكُ أن يُمسيَ بالنسبةِ إليهِ مَجهولَ المصيرِ، عاشَ يَحلُمُهُ ويرجُوهُ من ربِِّهِ، إِذ كان يَتحدثُ إليَّ كثيرًا والأملُ مَعقودٌ علَى مَلامِحهِ، راجيًا أن يَرَى فيَّ وفِي إِخوتي عِوضًا لَهُ عن مُعاناتِهِ في صِراعهِ الطويلِ مع المرضِ الذي يَنهشُ في صدرِهِ خاصَّةً، وفي جسدِهِ عامَّةً منذُ عِقدينِ سابقينِ، فقد كانَ يَعتبرُنا زَرعَتَهُ الأغلَى.

كان والدي –رحمَهُ الله- فلاحًا بَسيطًا، أخَذتْ منهُ الفِلاحةُ أجملَ أيامِ شبابِهِ لم يُنازعها فيهِ إلا المرضُ، فأَهلَكَاهُ بعدَما رَسَما على وجهِهِ مَلامحَ الكِبَرِ قبلَ أوانِها، وحَمَلاهُ إلى أَجلِه في عامِهِ السابعِ والأربعين.

انقضَى الحدثُ الجللُ، وبقيَ الخامسُ عشرَ من فبراير من كلِّ عامٍ، يَجيءُ، ويذهبُ، ثم يَجيءُ؛ ليتجدَّدَ مَع قُدومِهِ الحزنُ ويزدادَ الحنينُ، وتتماثلَ المَشاهدُ بكُلِّ تفاصِيلِها أمامَ عينَيَّ، مشاهدُ ذلك اليومِ البعيدِ القريبِ، وتلكَ الساعةِ الفارقةِ بينَ نَهارٍ وليلٍ طويلٍ أَسلمَهُ لصُبحِ يومِ الجمعةِ، خيرِ يومٍ طلعَت عليهِ الشمسُ، الذي شُيِّعَت فيه جنازتُه من مسجدِ القريةِ الوحيدِ آنذاكَ، الكبيرِ حاليًا، عقبَ صلاةِ الجمعةِ، في مشهدٍ مهيبٍ، لم يكُن عاديًّا في حياةِ العائلةِ والقريةِ، وفي حياةِ كلِّ من كان قريبًا منهُ، أولئكَ الذينَ ظلُّوا بينَنا وحولَنا، من قبلِ وفاتِهِ بأيامٍ، إلى أن تمَّ تفكيكِ سُرادقِ العزاءِ الذي نُصبَ في أرضِنا الزراعيةِ أمامَ البيتِ، واستَقبَلنا فيهِ الْمُعزِّينَ الذينَ قدِموا من كلِّ مكانٍ، وقرأَ عليهم القرآنَ الكريم كلٌّ من الشيخ زغلول أبوالمجد، والشيخ حسني عيسى، والشيخ عبدالعزيز خيرالله.

كنتُ أظنُّ أنني عندما أكبرُ سأنسَى، أو سأقوَى، لكنني كلَّمَا كبرتُ؛ صغرتُ وعجزتُ أمامَ افتقادِه، وشعرتُ بالحاجةِ إليهِ أكثرَ وأكثرَ، إلى القوةِ التي يَبعثُها صوتُه في قلبي، وإلى الطمأنينةِ التي تَنشرُها أنفاسُه في البيتِ، وإلى الأمانِ الذي يَحرسُه حِذاؤُه عندَ البابِ.

رحِمَكَ اللهُ والدِي الحبيبَ رحمةً واسعةً، والحمدُ للهِ الذي تَولَّانا برعايتِهِ، وصَنعَنا على عَينِهِ، فبلَغْنا ما يُرضِيهِ بإذنِه، وما يُرضِيكَ بفضلِهِ.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!