ابن الناس/ بقلم : الشاعرة والأديبة نبيلة حمد

 أسرعت نحو هاتفها الذي أعلن وقت الصحو وانطلقت تسابق الواجب وهي تمسح بقايا النوم عن عينيها المثقلتين بسهر مضن لم يمنحها غير ساعة لتستريح ، توجهت نحو المطبخ وهي غارقةٌ في التفكير الذي تقطعه بالتسبيح تارة وبالنداء على العيال تارة أخرى ، تأملت شروق الشمس عبر النافذة الهرمة بزجاج مشقوق ، ومعتقٍ بتراب تتراكم بقاياه عند الزوايا حيث يستحيلُ الوصولُ إليها فتظهر ملامحُ الكدر على صفحتها على الدوام ، انتفضت لصوت من ورائها نبراته محبوسةٌ ولكنها تأبى إلا الاندفاعَ المعتاد نحوها بالعتاب : يا مرة أين الفطور ؟ جاهز ، شوي انطلقت تحمل مقطفا تزدحم مساحاته بكأس الشاي والخبز وزيتون ولبنة اجتهدت في صنعها منذ أيام لعله يرضى أو يمنحها وسام شكر بصمت لا يفسدُّ عليها يومَها ، لمحها بعين شبه مقفلة وبدأ يتلو عليها فروضه المعتادة لاعنا ساعة اقترانه بها وساعة إعجاب أمه بأهلها انتهاء بساعة مولده ومولد جده، وفي الصالة المتواضعة كان الغطاء بجانبه يخفي بقايا جسد مرهق لطفل صغير كانت عيناه تلمح بقايا الدهان في السقف وكأنه يحصي كل صباح تداعيات صراخ والده على قشور ذلك الطلاء الساذج ، والتي لا تملك إلا التهاوي خوفا حين تجابه صوتَه الساخط على أمه وعلى الحياة وعلى بائع الخضار ونساء القرية وحتى على صوت شيخ الجامع الذي لا يعلو صوته لينبهه لوقت صلاة الفجر . كم كانت هنيئة ً تلك اللحظات التي يسمع فيها الأولاد ومنهم علي صوت محرك السيارة الهادر يعلن رحيل من اعتادوا مناداته ..يابا، فهم تعلموا بالغريزة ومن وعيد معلم التربية الإسلامية أن هذا هو الأب الذي يحمل رأس السلطة وغيابه ولو لساعات يعني تهاوي أعمدة البيت الريفي القديم ، كان أصغرهم دائما يطرح بينه وبين نفسه الأسئلة المحرمة، هل في بيتنا الصغير هذا أعمدةٌ قد تتهاوى؟ وهل تلك المشاعر المثخنةُ بالخوف من أبيه قد تجلب عليه سخطِ الله كما تحكي له أمه الراضية ، ثم هل أمه راضيةٌ فعلا أم أنها لا تملك آصلا روحا ترفض أو توافق، سألها يوما عن سر صمتها وعدم الاعتراض كحال جارتهم أم عايش يذكر أنها ردت مستنكرة …ول ول جارتنا ممرضة وبتجيب راتب ، وهل لميزان الواردات في مصروف البيت علاقة باحترام أمي لجسدها المثخنِ بالضرب ، خرج من بحر أفكاره بلطمة موجعة من مدير المدرسة وهو يصرخ ، صف بالطابور كويس يا ولد . مسح وجهه النحيل سامحا للطمة أن تصطف بجانب أخواتها التي لا يجد لها عددا، فالتأنيب للحبيب كما يقول صديقه أيمن حين يبرئ نفسه من الدفاع عنه أمام ضرب أولاد الحارة لزميله المسكين علي ، هكذا كانت تطلق عليه نساء الحارة منذ أن كان صغيرا يزوار ذات اليمين وذات الشمال عن تجمعات الأطفال لأنه المذنب الأوحد بنظر والده حين يرجع للبيت وعلى وجهه آثار كدمة أو جرح ،فأبن الناس يبقي بجانب الحائط باحثا عن الستر ممتثلا لنصيحة مديره حتى نشأ شابا يعمل أستاذا محترما في مدرسة القرية ،مهاب الجانب ، لا شك في هذا فالطلاب يخافونه حين يلعنُ اليوم الذي ولد فيه واليوم الذي نجح فيه انتهاء باليوم الذي رأى فيه وجوههم .

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!