اغــــــتراب/ بقلم : زرياف المقداد  

آفاق حرة

في زمن ما:

استيقظ مدهوشاً ثم قال: إني أرى يا أبي ضوءاً ما يأكلني.. وأنا آكل ولدي..

تقوقع أبوه، وبدا كتلة متعبة من رماد سنين مرهقة ثم، قال:

“إياك والفقر يا ولدي”

جدرانك إسمنتية باردة، عظامك مترهلة، والوقت دخان يعبر إلى مسام جلدك، ينفث منه هواء بارد خبيث، تتنفسه حتى العظام، وأنت بقايا جسد متعب في الزحام يأكله الدخان، والعتمة تملأ قلبك أنينها يمتد حتى شغاف القلب، تتلوى تعباً موجعاً مرهقاً..

ذرات البشر تعبر أمام مخيلتك في ذاكرة مشروخة حتى العظم، ذاكرة دفنتها في ماضيك حول جدران الغرفة الطينية وبقايا من رائحة الكتب العفنة..

رميت بقايا الذكريات خلف حدود التراب في البيادر، رميت وجه الأستاذ خلفك، بصقت على دموعك الطفلة، أزحت التراب عن صورة جدك: صحت: تباً لكم طائراتكم عمياء..

ضحك الأستاذ، إذ قال: ليست عمياء يا بني هم عمداً، ضربوا صورة جدك.. وعبر إلى مخيلتك صوت أمك يقول: فرس جدك هي التي رسمت حدود القرية قلت: هي مدينة يا أمي، قالت لك: قرية، قرية يا ولدي..

ضحكت مثلما ضحك الأستاذ، وصحت لماذا ترسمون حدوداً يا أمي، تنحنح أبوك جوارها، نفض غبار التاريخ عن وجهه وقال: لم نتفق يوما على حدود الأرض يا بني، وكان لا بد من انتهاء النزاع، فمشت فرس جدك تائهة، تلهث وراءها رؤوسنا.. ووقفت عند حدود الكبير، وأم العيون والخوابي..

لم يبق من تلك الذكريات إلا انكسار وازدحام الكتب في رأسك.. عبرت بها إلى (الهناك).

ودون أن يراك أحد، حملت حقيبتك، تصر فيها ما تعلمه، وما لا تعلمه.. ماضيك يلحق بك إلى (الهناك).. أحلام فاشلة، تحتضن مخيلتك ضحكة صاحبك: منتفة الشعب.. أهذا آخر مشاريعك..!! وأنت تقرأ لكائنات تستعد للذبح داخل أقفاصها، تقرأ تاريخاً تحفظه عن ظهر قلب.. ثم لا تلبث يدك باردة تقبض على رقبة كل منها، تتفنن بالذبح..

شيء من رائحة أمك في رأسك، بحثت عنه طويلاً، وعفرت وجهك في صدر كل امرأة لم تجده.

تحشرك وجوه زجاجية، تلتهم بقايا الندى من على وجهك الطفل المنكسر على الرمال القاسية عبثاً قالت لك أمك: إياك والنساء يا ولدي.

تعلق بك بقايا امرأة، من ماضيك، فيها شيء من رائحة الطين..

(لم يؤاخ عيسى محمداً).. قالها المطران

وبقيت آمال حلم يتسلق الفراغ، وتتشرنق داخل خوفها..

تصيح في جوفك: متعب مددت يدي ألتهم الضوء، انتفضت قرون الجهل والطوائف.

ترجوك أمك: إياك يا ولدي سيقتلونها..

تضج الطاولات، والكؤوس المتخمة، وأنت ركام من عناد وسجائر وتاريخ متخم فيه وجهك، وملامحك في الفراغ.

ما زالت نهاية الزقاق تطل عليك بسخرية قائلة:

تعبر في شارع، تبحث في وجوه كل النساء عن امرأة.. لا تجدها.. فجأة تقف أمام وجه أسمر يشبه رائحة ما مدفونةً في صدرك..

تضحك بخبث تُتقن تفاصيل جسدك أكثر مما تتقنه أنتَ، تجلسُ على طاولتها وبصمتٍ تحتسي كأسكَ، لا تتفوه بكلمة..

ترفع رأسها، وتقول لك: مساء الخير..

تقتلك الدهشة.. لا يبقى من جسدك سوى عظامك، على الطاولة أمامها، تقلب طاولتها.. تصرخ: ماذا تفعلين هنا.. في أتون المدن العاريات، حولك نحيب النسوة اللواتي ألقين أنوثتهن على قارعة الطريق، وتُهن عبر أزقة الفقر.. يا امرأة من قريتي.. ماذا تفعلين هنا.. تقشرين ثوبك.. وشهقات العيون تنتزع من ثنايا جسدك..

تصرخ.. تصرخ.. تركض.. تركض وراء سراب وتلهث..

تبصق منتحباً: ألحقت بي امرأتي..

ماذا فعلت!!

وأنت في زاوية ما.. من شارع ما تتذكر (سآكل الضوء) تتأنق، تقشر جلدك، تستهويك الألوان، تنتزع منك ذاكرتك، تلملم أوراقك تلقي بها أمامها..

-كم سنة لك.

-لي عشرون سنة

ترفع رأسها، تحدق فيك، تحدق فيها، جميلة زجاجية المظهر، تخشى الاقتراب من أنفاسها، تقرأ اسمك، تقرأ وجهها.. ثم تقول لك: آسفة لا نستطيع مساعدتك!! تصيح أهو اسمي، أم وجهي.. أهي أنفاسي أم بقاياي..؟!

يبكي المطر في شوارع ممتدة في جسدك، وتمتد ذراعاك، سماء واسعة تحتضن فيها امرأة ما، وبيادر، ورائحة الطين التي لم تستطع التخلص منها.

ترقب بصمت رؤوسهم فوق الشواطئ.. “ماذا أتى بهم؟!”

(وأنت.. ما الذي جاء بك).

يجلدك كلام أبيك: الفقر قاتل يا ولدي..

تضحك وأضواء تستهوي قلبك.. سترى كيف أقتل الفقر .

يبتسم أبوك ويلقي بجسده المتآكل فوق الأرض الباردة:

إياك يا ولدي، الفقر لا يعبر إلى الجسد فقط، الفقر يغشى الروح..

-دعني آكل الضوء يا أبي.

-دعه يا ولدي الضوء لا يؤكل.. الخبز فقط هو الذي يؤكل..

 

تتابع بثقة: يجب أكل الضوء يا أبي حتى لا يكشف عرينا.

أكلت كل ما تبقى من ضوء في خلايا جسدك، تهت طويلاً.. لم يبق حتى ثوب جدتك أضعته، أضعت وجه أمك.. وقفت تتحدى أباك: أكبر جداراً في وجهك يا أبي

أسقط كلما حذرتني من السقوط.

تصيح.. دعني أقف في وجه الفقر

يصمت أبوك الشيخ الجليل ثم يقول: يا ولدي فقر الروح.. أكبر من فقر الجسد.

-يا أبتي لم يبق في ذاكرتي شيء.

-يا بني.. لم تتعلم شيئاً.. يا بني كتبك صفراء، روحك تائهة، رأسك فارغة وأنت متعب تبحث عن الضوء والماء.

تصرُّ سآكل الضوء يا أبتي..

بصمت يشهد عويل أحزانك عدت بين جدرانك تعبر مرة أخرى من (الهناك) إلى (الهنا) حيث بقايا غرفة طينية باردة، والشمس قاسية جدك تحت الأنقاض، وأنت نزيف تائه في عروق الأرض.

ما زلت تبحث عن وجه أمك، وحدود قريتك.

ولدك خلفك تصيح به: إياك يا ولدي، لا تمش بخطوات أبيك.. ولا يلحقنّك سوط جدك..

الماء تحت قدميك، والضوء بين أصابعك، وأمك عطشى خلفك، امض يا ولدي، ابحث عن امرأة.. عيناها تحفظان أحلامك ووجهها يحفظ تقاطيع وجهك، عيناك خلف أحلامها الشتائية. تطل عليك بين الفينة والأخرى ذاكرتك تصيح بك:

“أعدت يا محمد”

ولدك سحنة من جبال الثلج، وأرض من سواد البركان.. ولدك ما زال خلفك يرفس بقدميه بطن الأرض، وأنت ما زلت تبحث عن ظل بيتك العتيق، وعن ظلِّ امرأة ما.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!