الأمل المكسور

من وجع القلب تطلع الذكريات

ومن صدأ الأيام تتلبد الغيوم والملمات

ومن هيام الروح والسريرة

تتدفق الأحاسيس والأمنيات #

لا يدري أين ألقى القلم بعد أن أتم مقطوعته الشعرية , شعر بحاجة ملحّة للسهر والمنادمة , ,ولأن الساعة تجاوزت الثانية صباحاً, الجميع يغطّون في نوم عميق. إذاً لا بد من مجاذبة هذا الليل أطراف الهموم والأحلام.

لملم أوراقه المبعثرة سريعاً ,فالريح تغير وتصفر, تنذر بعاصفة لا محالة قادمة. وقع قطرات المطر المشبعة بالأتربة على زجاج النوافذ , يزاد انتظاماً كما الموسيقى التصويرية المرافقة لموقف رعب تحيكه الطبيعة .

أطفأ أنوار بيته الخارجية المكشوفة على جهاته الأربع . وحالما اتخذ قراره بمسامرة هذه العاصفة مع فنجان فهوة , عصفت بخطوط الكهرباء موجة من البرودة والظلمة, سرقت منه النور والحرارة . ولحسن الحظ أن القهوة لم تصل إلى درجة الغليان ,هكذا قال في نفسه .

وعلى أطياف اللهب المتسرّب من الغاز , تحسس برؤوس أصابعه علبة الثقاب الموضوعة على الرف الرخامي , وقد صفّت عليه الفناجين والصحون طويلة العمر , وعلى الرغم من حذره الشديد المتوقّد , تهادى أحدها بالسقوط الحر! ولا يدري أية قوة شيطانية التقطته قبل أن يتبعثر قطعا على أرض المطبخ .

لعل العاصفة تهدأ , ولعلها الكهرباء تعاود الجريان في الخطوط بعد قليل ,قال في نفسه , ولكن دون جدوى ,راح يلعن العنف في الطبيعة و ويبصق على الكهرباء التي لا تصمد بعد أول تسارع في الرياح , فتجعل الليالي الشتوية سيلاً من الغبن والظلمة والسواد .

أشعل عود الثقاب واقترب به عله يرى تململ القهوة في الركوة , لكن بخارها الرطب منعه من ذلك ,خطر في ذهنه السراج , ثم تذكر أن أصغر أولاده أحال لمبته حطاماً قبل أيام ,ونسي شراء لمبة غيرها.

التعقيدات تتزايد أمام رغبته التي تملكته ,ولا نيّة ولا ميل لديه للاستسلام أو التراجع ,بل راحت تقوي عناده وإصراره على المتابعة .للمرة الثانية و بعد أن أشعل عوداً آخر ,لم يدنُ به كثيراً من الركوة, حيث لاح له أن القهوة تتحفز للفوران ,سحب ورقة من جيبه ويظنها فاتورة الكهرباء التي لم يدفعها بعد ,وألقاها على طاولة الرخام إلى جانب الغاز , فبددت حيّزاً من الظلمة المطبقة فوفه .فأحس بالارتياح وشعر أنه تخلّص من مأزق كبير , والقهوة أخذت حاجتها من الغليان .

طغت الظلمة على المكان من جديد, بعد أتت النار على كامل الفاتورة . أطفأ الغاز, رفع عنه الركوة بيمينه , وبيسراه تناول الفنجان بنجاح, بعد أن ركّز تفكيره على تحديد موقعه بشكل دقيق .

برهتان من الانتظار, حتى تتعود عيناه على الظلمة التي زادت من كثافتها ,فربما اهتدى إلى طريق عودته , لكن الظلمة ظلّت تتسرب من النوافذ ,فلم تتح له ما يريد .

لا يستطيع فرك عينيه كي يتصالح مع الظلمة , أغمضهما وفتحهما مرات , لاشيء تغير , امتحن عينيه بالنظر إلى ما بين يديه ,فلم ير شيئاً , فليتذكر إذاً ملامح الطريق إلى مكتبه الذي تركه منذ قليل , وما الموانع التي ربما كانت فيه .طشت مركون في مكان ما,كرسي ,راديو أو كرة أو لعبة مما كان يعبث الأولاد به قبل نومهم . فلم يتذكر أنه لمح أشياءً من تلك , لأنه لم يكن بوارد مثل هذه الحالة .

الأولاد يدفنون رؤوسهم تحت اللحاف هروباً من البرد القارص ,وهم مستغرقون في نوم عميق, الأم المسكينة التي هدها العمل وخدمة البيت والأولاد ,تغظّ هي الأخرى في سبات لانهائي , جاهدت كي تسهر معه كما ظلّت تعده في كل مرّة دون جدوى .

والآن ما العمل؟ هل ينتظر معجزة تضيء طريقه ,حاول أن يركّز تفكيره على ضرورة وصول التيار بعد أن يعدّ للعشرة , وعدّها مسرعاً مرتين دون فائدة ,ثم أعاد العدّ متحايلاً على التيار ,استفزّ قواه الروحية والداخلية للسيطرة على العاصفة تارةً وعلى التيار تارةً أخرى حتى كاد أن يتراجع عن اعتقاده بالقوة الخارقة للفوى الروحية والذهنية للإنسان .

هل سيشرب القهوة في الظلمة ؟ لا مانع لديه فالتأمل في مثل هذه الظروف مع الليل والسيجارة له نكهته الخاصة , وتابع ..لكن المهم الآن هو الوصول إلى المكتب .تساءل كم من الدقائق مضت دون أن يتغيّر أي شيء ,فالظلمة والبرودة تزدادان فهل هو مصاب بالعشى الليلي ..؟ تذكر أنه أصيب به في صغره, حينها سمع الكبار والمجربون يقولون أن سببه قلة “الزفر” أي الدسم. زفر مطولاً وحسم قراره بالمغامرة ,القهوة تقترب حرارتها من حرارة الطقس,جسده يهز من البرودة , رفع قدمه اليسار وللحظة تركها معلقة في الهواء ,وفي ظنه أنه لا يضعها إلا على أرض صلبة ,وحين لم يخب أمله انفرجت أساريره بعض الشيء ,وعندما نقل اليمين إلى جانبها ,أحس بالثقة العالية و بطعم النجاح وثالثة فرابعة ..

الدماء الحارّة تدفقت إلى مشاعره ونسي أنه لا يرى شيئاً ,حدّث نفسه عن قدرة المكفوفين في إدراك طرقهم والوصول إلى غاياتهم ,المحاولات الناجحة ظهرت أثارها في خطوات قادته حتى باب المطبخ ,الذي تلاعبت به الريح وتركته في منتصف الطريق إلى الإغلاق ,هذا ما سيعرفه لاحقاً , بعد المفاجأة التي وقعت في طغيان نشوته,حيث اصطدمت الركوة بسيف الباب المتربص كعفريت لا يرى,واندلاق القهوة على نصفه الأسفل إثراهتزاز يديه وارتجافها,فتتبعهاالركوة

ويلحق بها الفنجان من يده الأخرى محدثين بسقوطهما ما يشبه الانفجار !

لا يشعر بأية حرارة للقهوة على قدميه المكشوفتين ,واكتشف بعد لحظات من الصمت والذهول ,أن صحن الفنجان هو الوحيد الباقي بين يديه, فانتابته رغبة جامحة بالقهقهة ,بعد موجة الغضب والحزن التي اجتاحته في زوبعة السقوط والهزيمة ! لكنه كبت رغبته بالضحك الهستيري ,وما كان منه إلا أن ينحني بحذر , ويضع الصحن برفق شديد على الحطام مثلما يعتقد.

في الخارج خيّم الهدوء بشدّة, إلا من أصوات الرياح المجنونة والأمطار غير المنتظمة ,فالرياح تتلاعب ب “أنتيل”التلفزيون وقضبان الأعمدة الأسمنتية البارزة على السطح,أصاخ سمعه عسى أن يكون أحد أولاده أو أمّهم قد أفاق على صوت الارتطام, لكنه لم يسمع شيئاً من ذلك,أحس ببرودة الحيّرة وثلوج الخيبة تخترق رأسه,واقتنع بنصيبه من الدنيا .

فجأة قرر التنازل عن طموحاته والذهاب إلى غرفة النوم,وكي يجتاز الصالون حيث تبتعد الجدران عن مساعدته,لابد من السير على أربع للسلامة.لا يدري كم من الوقت استغرقت رحلته,وهو يتلمس وينظف بيديه مواقع لقائمتيه الخلفيتين!

الآن ,لا يشعر بضرورة الاستعجال وأهميته,وبعد عناء ومراوغة مع العتمة ,والأشياء المنتشرة والمبعثرة عشوائياً التي واجهها تلمّس أخيراً سريره وجسد زوجته التي لا تزال أنفاسها تتردد بانتظام ,كأن شيئاً لم يحدث,ألقى بجميع ملابسه أرضاً,اندس بهدوء تحت اللحاف,دسّ يسراه تحت رأسها ملثما اعتادا,ورمى بيمناه على صدرها النابض بالحياة دون أن يشعر أنه أحدث إزعاجاً ما, أفرغ ما في جوفه من الهواء بزفرة طويلة,حملق في الظلمة وهولا يرى شيئاً ,منتظراً برجاء سلطان النوم كي يأخذ بيده ……….

بقلم الشاعر – خلف الزرزور
دمشق
سجن عذرا صيف1989

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!