الصيد / بقلم : هدى الشماشي ( المغرب )

دخلت المقهى مترددة، وألقت التحية على النادل الذي صادفته في طريقها. قالت له: كيف حالك؟ وهذه ألفة أكثر مما يجب، ولكن لا بأس بالأمر.

كانت قد تمشت أمام المكان لدقيقتين، وفكرت بأنه من الأفضل أن تعود أدراجها، تحبس نفسها في غرفتها وتشاهد أربع حلقات من المسلسل التركي وتبكي. البطل يحب تعذيب نفسه. قال لحبيبته: أريد أن أسامحك، ولكنني بذلك سأهين نفسي.

فكرت هي بهذا فيما بعد، وقالت أنه واثق أنها تحبه، ولذلك فهو يقوم بهذه الشقلبات العاطفية: أسامحك وأهين نفسي، أهينك ولا تسامحينني، نحب بعضنا ونستمر في تبادل السباب، ولكن العمر يمر.

قال لها صديق لها: أنت ناضجة على نحو جميل.

إنها كلمات جميلة، ولكنها تستشعر الخطر منذ الآن، ولذلك تقرر أن تدخل المقهى، وتلقي التحية الخرقاء على النادل.

في الداخل رائحة قهوة دافئة. تجلس فتاة مع شاب ويتحدثان باندماج. تحرك الفتاة يديها وتلمسه كل حين لتأكيد كلماتها. تفلت منها فجأة أصوات عالية: لا تغضبني. فيلتفت الشاب حوله بحرج وينظر إليها هي.

إنها كانت تراقبهما طبعا ولكنها تنقل الآن عينيها لجهات أخرى. أسامحك وأهين نفسي، أصرخ عليك بصوت عال وتتفقد أنت المكان بحرج وحذر.

في السابق كانت لا تخرج وحدها أبدا. تخرج معه هو فقط في جولات طويلة بسيارته، ويستمعان إلى الموسيقى ويحسان بالحب. كان الحب يغلفهما تماما وهذا أمر جميل من أوجه عديدة، ولكن انتهاءه يؤلم.

هل تريد الآن أن تبكي؟ إن النادل يتأخر كثيرا وبالأساس فالمقهى خال تقريبا، أما بعد ساعة فسيمتلئ عن آخره، وصديقتها قالت لها: كوني هناك، وغمزتها بتواطؤ وخبث.

ما دخل الخبث في القصة؟ إنها لا تعلم. صبغت شعرها البارحة بلون أسود فاحم بعد أن خالطه الشيب ، واشترت معطفا بنيا فاتحا.

ذكر لها هو في السابق أنه يحب شعرها الأبيض، أما صديقتها فأطلقت إحدى جملها الشهيرة: لا تثقي برجل يحب عيوبك.

وهذه جملة غريبة إذا ما قارناها بموروثنا من السينما والروايات والأغاني، ولكن تجارب صديقتها موثوقة أيضا، وقد عاشتها كلها في العالم الواقعي.

-حليب بالشوكولا لو سمحت.

إن هذا تمسك بالطفولة، وهي تفعله عن وعي تقريبا، وتعرف أنه سيضحك أي شخص لا يحبها، أما من يحبونها فيفهمون، إنها فقط خائفة.

تحيط كتفيها بذراعيها، وتتذكر عندها أن تخلع المعطف: لا تبقي مغلفة بمعطفك كالغبية. 

لا بأس بذلك، تعني كلمة سيئة من هنا وهناك، فهي على العموم قررت أن تستسلم. خذوا حياتي وافعلوا بها ما تشاءون. صورة شعرية، إذ لا أحد في الواقع يريد حياتها.

إنها تفكر الآن فقط بالطريقة التي جرت بها الأمور. على نحو خاطف وبطئ. كيف يمكن قول ذلك؟ لقد كانت نائمة.

قالت له في البداية: أنا أحب أن أكون معك.

وصارا يقضيان الوقت معا، وفيما يخص الوقت فإنه كارثة. إنه يمضي على النحو الذي يريد، وهي تلتصق به ولا تفكر في أي أمر آخر. تظن بأن من الأفضل أن لا نُعمل عقولنا حين يتعلق الأمر بالحب وتنتظر المعجزات، ولكن المعجزات لا تحدث.

-شكرا لك.

إنهم يضعون الشوكولا في طاسات كبيرة حمراء وهذا أمر مضحك. على طاولة الشاب والفتاة طاسات صغيرة بيضاء للقهوة، وهما صامتان الآن ويحدقان بالخارج.

تفوح منهما رائحة الخيبة. تعني، ما الذي يريده الناس من الحب؟

ربما لا شيء، وعادة فإن التفكير بما يريده أي إنسان هو أمر مضجر ويدعو للكآبة، وهو يبدو كالصيد أو أي هواية غريبة لم تمارسها أبدا، إنهما يعذبان بعضهما هنا في مقهى على مرأى من الناس.

يعود رأسها ليعلق بكلمة الصيد وتكاد تضحك. قالت لها صديقتها: هناك مرآة كبيرة في المرحاض. تفقدي نفسك كل حين.

قالت لها أيضا أنها فعلت هذا بنفسها: لخمس سنوات، وأنها حصلت بالنهاية على زوج، وهذا تقريبا ما يعتبره الجميع سعادة.

-أنت تعرفين أنك لن تتزوجي أبدا.

هذا ما كان يقوله هو، وكان يؤلمها فقط لأنه يستبعد بذلك إمكانية زواجها به هو. يشرح لها الأمر مبتسما: أنت لا تستطيعين العيش مع أحد.

حسنا، لنتفق على أنه يكذب. دخل شاب في الثلاثين وجلس في عمق القاعة بمواجهتها. أحست بأن قلبها يرتعش، وتصورت عروقه كما هي متذكرة دروسها بالجامعة.

قال لها هو بالنهاية: أنت لست امرأة حتى.

رفعت رأسها ونظرت إلى الرجل الذي كان ينظر إليها بالفعل. قالت لنفسها: إنهم يفعلون هذا هنا طوال الوقت، وامتعضت لأنها أحست بأن هذا هو تقريبا عمل العاهرة.

-تذكري أنك لست طفلة.

إن الوقت يمر. خمس سنوات كاملة مع رجل اكتشف بالنهاية أنها ليست امرأة حتى. دمية عامرة بالريش، رف حلوى، صندوق مفاجآت أو أي شيء آخر جميل، ولكن ليس امرأة بالتأكيد، وهذه الجملة تقف في حلقها الآن ولا يمكن تجاوزها. 

يضع الشاب هاتفه على الطاولة ويشرع بالعبث به والنظر إليها. إن ما يقف بينهما في الحقيقة هو الخوف. لو اقترب أكثر فقد تحدث فضيحة، ولكنه لا يبتعد أيضا، إنها مسافة الخوف، وهي خائفة أيضا، وتنظر من النافذة طوال الوقت.

يمر مجنون قرب المقهى ويطلق جملة عالية: أحضروا لي الله لنتفاهم معا.

تسري قشعريرة غير مبررة في عمودها الفقري. حول ماذا قد يتفاهمان؟ إنها تريد أن تعرف هي الأخرى.

أما الآخرون فيريدون تزويجها. أمها وصديقتها والآخرون: أنت تضيعين حياتك، ولكن لنتفاهم أولا يا إلهي، إنني أعتقد أن الحياة بالأساس ضائعة.

يقف المجنون بمكانه ويضع يده على خاصرته وينظر للسماء: أنا أنتظر، وتراقبه هي أيضا. تفكر بالخيارات الضئيلة التي أصبحت تملكها، وبأنه من الأفضل أن ترمي بها جميعا في الهواء: خذي خياراتك النيئة يا حياة، ويتسع فمها بابتسامة كبيرة، ثم تنتبه للشاب الذي اقترب منها فعلا وفي يده هاتفه.

-هل يمكن أن أضع هاتفي ليشحن هنا؟

تنظر إليه وتبتسم. لقد عبر مسافة الخوف، وتحمل معطفها بيدها: اجلس هنا أيضا لو شئت، أنا مغادرة.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!