الكفن المفقود / بقلم: محمد فتحي المقداد

منشقّ عن مجموعة مسلّحة يقودها اللصّ الكبير المسيطر على جميع الأعضاء، كلمته مسموعة بلا نقاش، التأفّف لا وجود له في قاموسهم اليوميّ، رغم كثرة أوامره لهم وطلباته.
لا يُخامرهم أدنى شكّ في حكمته القياديّة، لا يُحابي و لا يُجامل أحدًا منهم. يسعى بكلّ قُدراته ومواهبه الفائقة التي لا تُجارى في سبيل المنفعة العامّة له و لأتباعه.
ذات يوم غاضب توقّفت العجلة فجأة أمام انسداد الأفق في عينيّ ذلك المُنشقّ الشقيّ عنه، لم أستطع التكهّن بمعرفة اسمه الحقيقيّ، رغم أنّني استخدمت كلّ خبرتي ودفعت بكل مجهوداتي؛ فعادت إليّ خائبة ضاعفتُ تراكم خيباتي اليوميّة، دموعٌ تُغالبه منبثقة من أعماق أعماقه الناضحة حُزنًا، بعد أن تلقّى رسالة عبر (الواتس أب)، علم منها أنّ والدته في المستشفى تُصارع سكرات الموت، وكلّما تصحو قليلًا تلهجُ باسمه، وتُشيرُ بإصبعها إلى عينها اليمنى، فَهِمَ ممن هم حولها من أبنائها وبناتها و أحفادها أنّها تُريد رؤية ابنها (أبو طاقيّة)، هذا الاسم هو الذي خطر ببالي لأطلقه عليه؛ ورجّحتُ أن يكون مناسبًا له؛ لغلبة الظنّ على نفسي أنّني اخترتُ له علامة مميّزة، وأنا أسترجعُ أحداث قصّة طاقيّة الإختفاء، يفعل المُختفي بعد أن يلبسها ما يشاء دون عائق، يتبدّد حجم جسمه من دون أن يراه أحد فيفسد عليه فِعلته.
أويتُ إلى فراشي بعد صراع طويل مع الهواجس والقلق اللّذيْن تناوبَا بقساوة عليّ، وتواطآا مع شدّة البرد منذ بداية هذه اللّيلة خاصّة بعد حُلول الظلام، ومما زاد بالطنبور نغمٌ، انقطاع التيّار الكهرباء منذ العصر، والمازوت وما أدراك ما المازوت؟ فلم أستطع الحصول على أيّة كميّة حتّى ولو كانت عُبوة ذات اللتر أو اللتريْن تكفي لليلة واحدة.
استسلم جسدي للنوم العميق أخيرًا من شدّة الإعياء. صوت ارتطام في الغرفة الأخرى نبّهني، تململتُ في فِراشي، انقلبتُ إلى جانبي الآخر، شعورٌ مؤلمٌ بالخدر في ذراعي اليمنى، تراخى الجسم من جديد والحركة لم تتكرّر. أتذكرُ أنّني شتمتُ القطّة الشقيّة أظنّها تبحثُ عن مكان دافئ تنام فيه، أو أنّها تبحث عمّا تأكله فمعدتها خاوية، الحصار لم يترك لها شيئًا تقتاتُ به، كما أنّها صارت تخافُ من أصوات الرصاص و الانفجارات فلم تَعُد تخرج للحارة. في الأيّام الأخيرة صارت لا تغادر المكان الذي أكونُ فيه، رغم أنّني أطردها وأشير لها بالابتعاد خاصّة عند دخولي للخلاء؛ لشعوري بالحرج ممن يُراقبني أو ينتظرني في مثل هذا الموقف الخاص جدّا.

***

ما إن استقرّ جسدي بعد انقلابه، ووجهي صار أمام الحائط الأسود فدخلت منه إلى عتبه حُلُم مرعب استنفر دُموعي، نوبة من البكاء الهستيريّ، أنست اللصّ(أبو طاقيّة) الهدف الذي جاء من أجله مغامرًا بوقته، أحبطه هذا المكان الحقير النّاضح بفقره البائن، فتح الباب تقدّم نحوي جلس على حافّة الفرشة، حاول بكلّ وسائله معرفة سبب بُكائي الشديد في مثل هذا الوقت، ولمّا فشل في مهمته في أن يسرق ما غلا وخفّ حمله مدّ رجليْه، وانخرط معي في نوبتي البكائيّة كأنّنا في مأتم حُسيْنيّ.
– قال: فوجئت ببكائكَ الذي قطع نياط قلبي أثناء عودتي من مهمّة أعتقد أنّها فاشلة، أوقفني نحيبك فلم أتمالك نفسي؛ فهببت لمساعدتك.
– فيك الخير والبركة يا (أبو طاقية)، أنت رجلٌ شهمٌ تستحقّ كلّ احترام، خرج كلامي متقطّعًا نشيجي لم يسمح لي بالمتابعة، جفّفتُ دُموعي بطرف كُمّ البيجاما.
– أبو طاقية: رجاءً أخبرني، ما قصتّك عساني أستطيعُ التخفيف عنك؟.
اعتدلتُ في جلستي، رفعتُ ظهري قليلُا مما سمح لي رؤية وجه (أبو طاقيّة) بوضوح تامٍّ أناره ضوء فلاش هاتفه النقّال، استعدتُ شيئًا من رباطة جأشي بعد أن أخذت نفَسًا عميقًا، وسكنت روحي، وهدأت نوبة النشيج، ارتياحٌ داخليّ ولّد رغبةً بالفضفضة لهذا الرجل الشهم الذي حسبته. تناولتُ علبة الدخّان وعرضت عليه ضيافة، مدّ يده سحب لفافة، عبثًا حاولتُ إشعالها له أوّلًا بالولّاعة التي تعطّلت فجأة، بحث في هاتفه النقّال الحديث، وقال: قاتلهم الله لقد وضعوا كلّ شيء في هذا الجهاز الصغير ونسوا الولّاعة، لا عليك.. وهزّ برأسه احتجاجًا، هيّا تكلّم بسرعة الوقت يُداهمني، ولا أملك المزيد منه.
ضحكنا سويّا لهذه الطّرفة، وتجاهُلَ شركات الهواتف لمساعدة المدخّنين في مثل هذه المواقف العصيبة.
– يا صديقي فوجئتُ بأنّني ميّتّ، ولم يستطع الأهل الوصول إلى بيتي بسبب الاشتباكات بين الجيش الحرّ ورتل من جنود النّظام، المهمّ وصل بعض جيراني إلى هنا من حارتنا التي تتمتع بنوع من الهدوء لأنّها محسوبة على المُوالين للنّظام، المشكلة أنّهم بحثوا عن كَفَني الذي أعددته منذ زمن لمثل هذه السّاعة، لأنّني رجوتُ الله أن أنام بقبر مريح وكفن جديد من القماش الأبيض، تبيّن فيما بعد أن بيتي تعرّض للسرقة أثناء سكرات الموت المُتناوبة.
سمعتُ ذلك من أحدهم وهو يقول لصاحبه: كسبنا الكفن منه قبل استخدامه، وبِعتُه بخمسة آلاف ليرة لأحدهم لتكفين والدته التي ماتت بقصف المروحيّة للمنطقة التي تقطنُ بها، وأبقيتُ لي زجاجة العطر التي كانت بداخله.
انتفض جسمي، تنفّستُ بشيء من الصعوبة، الضوء يدخل باهتًا من النّافذة من الجزء الذي لم تغطّه الستارة، استعذتُ من الشيطان، تلمّست جسدي وجدتُني ما زلت على قيد حياة. تهاديتُ بجانب الحائط إلى أن وصلتُ للخزانة، حقيقة لم أجد الكفن.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!