المهمة الأخيرة/ بقلم: عبد السلام كشتير(المغرب)

أرقه ألم ” ضرس العقل ” طيلة الليلة الماضية . لم يهتم به من قبل بما فيه الكفاية وأهمله لما أرسل إليه أولى إشارات المرض ، كان يتجاوزها ويكتفي بتجرع بعض المسكنات ليؤخر زيارة طبيب الأسنان لإجراء الفحوصات والعلاجات الضرورية . فهو يعاني من فوبيا زيارة هذا الأخير ومن روائح تلك المواد المستعملة في تعقيم وتنظيف أسنان المرضى ، ومن المعدات التي يستعملها الطبيب في مختلف تدخلاته .. غير أنه قبِل زيارة الطبيب مذعنا هذه المرة نظرا لشدة الألم ، وما خلفه من أثر على صحته البدنية والنفسية ، فحدد لذلك موعدا على مضض ..
ولج العيادة في وقت موعده بالتمام . وهو يسير نحو قاعة الانتظار ، أثاره العدد الكبير للمرضى على غير العادة .. تفحص القاعة مليا بنظرة شاملة عله يلمح كرسيا يستريح فيه ، فإذا به يراها جالسة في يسار القاعة بجوارها مقعد فارغ .. اقترنت النظرة التي وجهها إليها بخفقان غير عاد لقلبه ، تشوش ذهنه قليلا حينما استولت على مساحة رؤيته وجذبته إليها وهي تبادله نظرات مماثلة . ربما لأن قاعة الانتظار مفتوحة على مدخل العيادة ، فيضطر الجالسون فيها إلى رفع أبصارهم نحو كل من يلجها تلقائيا ، وعليه تكون نظراتهم غير مقصودة .. لكنه أحس أن نظرتها مختلفة يشع منها بريق لم يقو على تحمل وقعه ، وتوشي برسائل ما التقطها في لمح البصر .. لقد أطالتها ، أو هكذا تهيأ له وهو يخطو خطواته متوجها نحو الكرسي الفارغ بجوارها .. جلس بهدوء وهو يتمتم بالسلام على كل الحضور .. استرقت منه نظرة سريعة ثانية دون أن تشعره بها .. بعد دقائق قليلة ، وهو يتحرك في مقعده عساه يجد وضعية يستريح فيها ، بادرها بكلمات أقرب إلى الهمس ..
– اسمحي لي سيدتي بكلمة من فضلك .
– ٱنسة …
يسرع في تصحيح خطإه ..
– معذرة ٱنسة ..
لا عليك ، تفضل ..
– القاعة غاصة بالمرضى .. يبدو أن الطبيب يتأخر في كشوفاته على مرضاه ..
– لا ، ليس كذلك . لم يحضر الطبيب بعد ، فقد أخبرتنا مساعدته منذ قليل أنه سيتأخر عن وقته المعتاد لأمر طارئ …
أجابته بنفس نبرة كلامه متحاشية النظر في عينيه هذه المرة .. ثم عادت إلى الاهتمام بهاتفها مركزة عينيها على شاشته وهي تحرك بسبابتها شريط الصور والمعلومات التي تفد عليها بحثا عن ما تجزي به وقت الانتظار .
انشغل ببريق مقلتي الفتاة التي تجلس بجانبه ، وكيف أشعلت دواخله وألهبتها لما وجهت إليه سهامها ، وهو يتذكر تلك المقولات حول لغة العيون التي اقتطفها من بعض القراءات في الموضوع ، ونظمها في خاطرة مركزة نشرها على صفحته الفيسبوكية .. لم يهتم وقتها بجدية فحوى الخاطرة ، لكنه وجد نفسه اليوم موضوعها وكأنه كتبها على مقاسه ، تعكس أحاسيسه وتفصل في ما حدث له هذا الصباح وهو يتأهب للجلوس بجانبها بعدما تشابكت نظراتهما لحظات كانت كافية لتعمل عملها في العقل والجنان .. شابة ناضجة الملامح ، نظرت إليه بثقة في النفس وبأريحية كما لو أنها تعرفه من قبل .. عيناها واسعتان ، سواد في بياض ، حتى صارتا بؤرة جذب قوية .. شعر أسود أسيل منسدل على كتيفها متحرر من كل ما من شانه أن يحد من حريته .. بشرة بيضاء زادتها ملامحها الهادئة حسنا وبهاء ..
غاب عن واقع القاعة وعن سبب وجوده بالعيادة للحظات ، ربما تأخٌُر الطبيب المعالج منحه فسحة زمنية لينظم في ذهنه ما حدث له الٱن .. يتساءل عن لغة العيون وعن الحب من أول نظرة .. بل امتطى صهوة حلمه ليسافر بعيدا وهو يناجي نفسه ..
يشعر كما لو أنه أحبها منذ زمن بعيد ، حتى قبل أن يراها في هذا اليوم المتميز .. ينتابه إحساس بأنه يعرفها بالفعل ، وملامحها مألوفة لديه ومترسخة في ذاكرته .. لقد كانت هذه النظرة الوحيدة كافية لتجعله ينسى مرارة الألم والسهاد والأرق الذي عاشه الليلة الماضية ، ويشعر بسعادة مختلفة تغمر دواخله ، وتكشف له عن مدى قوة وأهمية سحر العيون .. فالنظرات مشاعر لا صوت لها ، أو هكذا عبر يوما ما في منشوره عن غواية العيون .
قبل أن يحين دورهما لمقابلة الطبيب كانا قد قطعا أشواطا لا يستهان بها في تعارفهما وتدليل كل ما يمكن أن يعيق تقارب قلبيهما قبل عقليهما .. تعارُفاً مكنهما من تبادل وسائل التواصل بينهما رقمية ومادية .. فظروفهما جد مواتية لينجزا مشروعهما المستقبلي ، إذ لا شيء يعوزهما .. وكانت وسائل التواصل كفيلة بإتمام ما افتتحا به تعارفهما في عيادة الطبيب ..
سابقا الزمن في كل شيء ، لم تمهله كثيرا ، رأت فيه الشاب الواعد والفارس القائد الذي سيبحر بسفينة حياتها إلى مرافئ الأمان .. انفتحت شهيتها لكل شيء كانت تأمل حدوثه يوما ما قبل أن تعدل عن المشروع بأكمله .. عندما انتابها إحساس وهي على عتبة مرحلة عمرية ، أنها لم يعد لها أي أمل في تعارف أو نصيب في الزواج .. هكذا أقنعت نفسها . ربما تسرعت في إصدار هذا الحكم القاسي على حالتها وهي تعيش التحول الذي طرأ فجأة عليها ، أو رأت فيه بلسما لجراحها القديمة وما عانت منه خلال فترة لا تريد تذكرها أو التفكير فيها ، تأمل وضع قطيعة معها ومع ذاك الماضي الكئيب .. إنما كان لقاؤها هذا فاتحة خير عليها وقفزة نوعية نحو مرحلة جديدة في حياتها ….
كان تأثير نظراتها قويا على نفسيته ووجدانه هو الٱخر ، أشعلت جدوة نار الحب التي لم يعش لواعجها ولم يحسها من قبل رغم بعض المحاولات لربط علاقة مع بعض الفتيات من محيطه العائلي أو من بين زميلاته في الشغل .. لقد كان وقع عيونها لاهبا شديد الأثر ، جعله يعلن بسرعة ولهفة عن خطوبته لها خلال الأسابيع القليلة التي تلت تعارفهما بتلك العيادة المباركة .. هكذا يحلو له أن ينعتها رغم الرهاب الذي ينتابه كلما فكر في طبيب الأسنان .
عانى الأمرين من موقف عائلته التي عارضت هذه الزيجة بشدة لاعتبارات رأتها أساسية وضرورية في معايير زوجة ابنها ، بينما لم يعرها هو أية أهمية . فساير اختيار قلبه لشريكة عمره .. وتجاوز موقف أمه على الخصوص المعارض لاكتمال مشروعه .. فهي ترى أن عامل السن شرط لا يقبل المساومة .. تحمَّل كل الضغوطات التي مورست عليه ، وحاول المناورة بكل ما أوتي من ذكاء وصبر من أجل أن يظفر بنصيبه الذي قدر له في هذه الحياة …
رزقا بولدين خلال الأربع سنوات الأولى من زواجهما .. أحاطاهما بكل الحب والحنان والتربية الصالحة .. تضامنا في كل شيء وقررا تسطير برنامج لمعيشهما اليومي يعكس ما يشعران به من محبة ومودة لبعضهما البعض .. أحست أنها أحسنت الاختيار لما ارتبطت به ، فحياتها أصبحت هادئة لا تشوبها شائبة ، وصارت تفتخر أمام عائلتها ورفيقاتها بالنعم التي حباها الله بها بعد زواجها منه ..
اقتنعت عائلته بأن زواجه منها لم يزد حياته إلا تألقا وتوفيقا .. حتى أنها ربطت بين ما حصل عليه من ترقية في وظيفته ، وبلوغه مستويات رفيعة بوأته مكانة راقية في مؤسسته ، بزواجه من هذه الفتاة التي كانت فأل خير عليه وعليهم جميعا ..
– مرحبا حبيبتي سأتأخر قليلا عن وقتي المعتاد ، لدي اجتماع مهم .. اهتمي بابنينا واجلبيهما من المدرسة .. قبلاتي .
– لا تهتم عزيزي .. اعتن بنفسك وفكر في مهامك ..
إلى اللقاء ..
صار يتأخر باستمرار خاصة في الفترة المسائية ، بسبب المسؤولية التي أصبح يتحملها ، والمهام الجديدة التي يضطلع بها .
قبل أن يلتحق بغرفة النوم ، خاطب زوجته وهو يتخلص من ملابسه الرسمية ، مطالبا إياها بأن تهيئ له حقيبة السفر فهو على موعد في الغد مع تنقل إلى مدينة بجنوب البلاد ، لثلاثة أيام متوالية سيحضر خلالها لقاءات دراسية حول التعريف بالجهوية التي انخرطت فيها الدولة ..
– حاضر عزيزي ، غير ملابسك والتحق بي لتناول وجبة عشائك ..
– “تعشيت برا في الخدمة ، تعطلنا ودارو لينا العشا “..
سأنام بعد دوش سريع لأستعد للسفر غدا باكرا ..
لاحظت الزوجة أن زوجها يقضي جل أيام الأسبوع في العمل ، ويتأخر معظم الأوقات في العودة إلى البيت .. حتى أنه لم يعد يحدث ابنيه أو يتفقد أحوالهما وما يتلقيانه من دروس . لقد أصبحت الأم تتكلف بنقلهما إلى مدرستهما وجلبهما إلى البيت ، ومساعدتهما في إنجاز أعمالهما المنزلية .. ويكتفي هو بما تسرد عليه من أخبارهما بشكل سريع ومركز كما لو أنها تقدم له تقريرا عن نشاطها اليومي كل مساء ..
ارتأت في نهاية أحد الأسابيع أن تغير الأسرة أجواء المنزل والمدينة ، والسفر إلى وجهة تستعيد فيها بعض حيويتها وذكرياتها لما كانا يسافران معا أو رفقة ابنيهما ، ويقضيان أياما جميلة تنعش علاقتهما وتجدد الدماء في أواصرها ويسعد بها الجميع .. غير أنها وقبل أن تخبره بمشروعها ، سارع هو في طلب تهييئ حقيبة السفر المعلومة ..
– “غدا خاصني نكون فالشرق ، خاصني نسبق الوزير لتما” ..
– حتى في نهاية الأسبوع لم تسلم من التنقل والعمل؟
– إنها لعنة المسؤولية عزيزتي .. “ماعندي ماندير “..!
صمتت قليلا وهمهمت بكلمات تعلن فيها عن مشروعها بعدما تهيأت له طيلة الأسبوع بكل ما يلزمه من تحضيرات ..
– “فكرت نسافرو السبت والأحد نغيرو الأجواء وننساو ضغط العمل وو … لكن ..”
قاطعها بنبرة فيها كثير من الامتعاض من العمل والأمل في تحسن قريب لأوضاعهما ، وهو يعدها بقضاء إجازة مرتقبة خلال الأيام القادمة ، في مكان هادئ ويعوضها وابنيهما عن غيابه وانشغاله عنهم بمهامه التي لا تنتهي ..
قبلت على مضض تبريره للأوضاع التي باتت تعيشها الأسرة في الأيام الأخيرة وأستسلمت للنوم ..
حوالي الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأحد الموالي لسفره ، والزوجة منهمكة في تهييئ وجبة الغداء ، إذا برنيت الهاتف يصلها من غرفة المعيشة . لم تهتم به فاستمرت في عملها . لكن الرنين لم يتوقف وكأن المتصل يلح على مهاتفة صاحبته .. تركت ما بيديها وخطت نحو هاتفها لمعرفة سر تكرار الرنين .. نظرت إلى الرقم الظاهر على شاشته ، فاكتشفت أنه غير معروف لديها ، وليس مسجلا في قائمة أرقام هاتفها .. أهملت النداء وانقلبت راجعة نحو المطبخ ، لكن الرنين تكرر مرة أخرى ، فتحت الخط وألقت الهاتف على أذنها ..
– السلام عليكم ، السيدة فلانة زوجة … معك سيدتي الدرك الملكي سرية الشمال .
– وعليكم السلام . نعم أنا هي . هل من خدمة سيدي ؟
قاطعها المتصل بنبرة تحمل بعض الانزعاج مما سيقول لها .. تفهمت الوضع وهي تتقبل ما سيلقي المتحدث على مسامعها ، وقد استولى عليها الخوف والوجل ..
– أعتذر سيدتي ، فالأمر مزعج قليلا والخبر غير سار ويهم زوجك ..
– “الله يسمعنا خبار الخير .. ياك لاباس أسيدي؟ أش وقع ليه ؟ ”
– لقد تعرض زوجك لحادثة سير لما كان متوجها إلى الشمال ، وهو الٱن في قسم المستعجلات بالمستشفى المركزي .. يمكنك الذهاب لزيارته هناك ..
انطلقت بسيارتها نحو المستشفى وهي تسابق الزمن مضطربة خائفة مما ينتظرها وقلبها يكاد يغادر صدرها والحزن يأكلها ، ويداها ترتجف من شدة هول وقع الخبر عليها ..
– يإلهي ماذا حدث ؟ كيف هو الٱن ؟
يختلط كلامها ببكاء وشهيق وهي تحاول ضبط نفسها حتى تتمكن من بلوغ المستشفى ..
ثم تسترجع مفردات الشخص الذي أخبرها بالحادث وهي تسائل نفسها ..
– لكن عمله كان في الشرق ، ما سبب تغيير وجهته ؟
أيكون اختلط عليه الشرق بالشمال ؟
– لطفك ربي ورحمتك ….
رافقتها ممرضة نحو الغرفة التي يرقد فيها زوجها وهي في عجلة من أمرها لتبلغ هدفها . ما إن فتحت المرافقة الباب حتى أسرعت نحوه وهي تناديه وتسأله عن حاله وما حدث له وكيف وووو .. غير أن الممرضة منعتها من الجهر بالكلام ، فحالة المصاب حرجة ، يعاني من كسر في دراعه اليسرى وقدمه اليمنى .. وأن وضعه الصحي والنفسي لا يستحمل كل هذه الجلبة ، لقد خرج لتوه من غرفة العمليات .. !
توقفت الزوجة عن الكلام والتزمت بتعليمات الممرضة مكرهة ، لكن عينيها لم تتوقفا عن ذرف الدموع ولم تستطع كبح جماح بكائها الذي يخرج ممتزجا بكلام وأنين وولولة ، ولو بصوت منخفض ..
لاحظت أن معظم جسد زوجها مغلف بضمادات بيضاء ، حول رأسه ودراعه اليسرى وقدمه اليمنى ، وعينيه مغمضتين ، وقد تغيرت ملامحه نحو اللون الداكن ..
انتقلت إلى الجهة الأخرى من السرير وأمسكت بيده اليمنى لما لاحظت أنه يحرك أصابعه في محاولة منه ربما للتواصل معها ، فصارت تمسح عليها وهي تتمتم بدعوات وتبتهل إلى العلي القدير أن ينقذ حياة زوجها ويشفيه شفاء عاجلا ..
رفعت نظراتها عن وجهه ، فتفاجأت بوجود سيدة تجلس قرب سريره تحمل هي الأخرى ٱثار كدمات على إحدى عينيها ، وقطعة من ضمامة فوق جبينها ويدها اليسرى مغلفة بشريط أبيض وبعض بقع الدم على ملابسها .. فتجمدت في مكانها وهي تنظر باندهاش إليها ، وسألتها بنبرة شديدة اللهجة ..
– “شكون انت ؟ وماذا تفعلين في غرفة زوجي؟ ”
نظرت إليها السيدة الجالسة نظرة صارمة بعينين محوطتين بهالة رمادية دكناء ووجه شاحب .. بعدما تفحصتها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها .. وأجابتها بكلمات نارية ..
– “أنا مراتو ! “

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!