المَدموزِيل.. ماري لِين. بقلم. نجم الدين سمّان

لآفاق حرة

المَدموزِيل.. ماري لِين.
بقلم. نجم الدين سمّان.

أرتني جَدَّتي نَفُّوس.. رسالةً مكتوبةً بالفرنسيّة؛ وفي داخل طَيَّتِها صورةٌ بالأبيض والأسود؛ لامرأةٍ في الثلاثينات مِن عُمرها وبجانبها طفلٌ في الخامسة مِن عمره؛ قالت بأنها للفرنسيّة التي زارت إدلِبَ في العامِ الذي ولدت جَدَّتي فيه والدي.. أولَ ذَكَرٍ في شجرةِ العائلة الحَدلَبِيّة: الحلبيّة الإدلبيّة.
– جميلة هذه الفرنسيّة؛ أهذا ابنُهَا.. يا ستّي؟!.
رمقتني جَدَّتي نفّوس: – حين زارتنا لم تكن مُتزوجَة؛ ولم يكُن لها ابن؛ كان اسمُهَا المضموزيل ماري لين.
ثمّ حَكَت لي؛ كيف استدعى القائم مقام الفرنسيّ جَدِّي نجيب.. لأنه يعرف الفرنسيّة؛ وطلب منه أن يُرَافِقَها في جولةٍ على المُدُن الأثريّة حول إدلب؛ ثمّ سَمِعنا صوتَ أوتومبيلٍ يقفُ أمام باب الدار مُباشرةً؛ ونزلَت مِنهُ المضموزيل؛ فتحَ لها جَدُّكَ البابَ فوجدتُهَا تبتسمُ في وجهي؛ بينما كُنتُ أحمِلُ والدَكَ؛ ومن ورائي.. عَمَّتَاك.
عَرَّفَهَا جدّك نجيب.. علينا:
– مدام نفيسة؛ مدموزيل صبيحة؛ مدموزيل عائشة.
ثمّ نادى على ضُرَّتِي فنزلت من المُربَّع الفوقاني حامِلَةً بنتها أيضاً:
– مدام صافيناز؛ مدموزيل فاطمة.
سألته ماري لين بالفرنسية.. فضحك: – تسألني.. أيكُمَا زوجتي؟!.
أشار إلينا وهو يُجِيبها؛ فجحظت عينا ماري لين؛ ثمَّ قالَ شيئاً.. فابتسَمت؛ ثمّ سألنا عن طَبخة اليوم؛ وبدأ بسلسلة أوامِره:
– حَضِّروا “السَفَرطاس” الكبير لشوفير الأوتومبيل وللدَرَكِي.
ثمّ خرج بالسفَطاس إليهما.. سَمِعناهُ يقول: – اذهبا إلى الخان الكبير تغدَّيا واستريحا؛ وغداً بعد صلاة الفجر تكونان هنا؛ لدينا مشوارٌ طويل.
قالت لي جَدّتي نفّوس:
– كم كانت تلك الفرنسيّة تُحِبّ الأطفال؛ جَلسَت بين عمّتيك؛ حَمَلت والدَك؛ وعمّتك الثالثة: فاطمة من جدّتك التركية؛ وغنَّت لهما بالفرنسية؛ فناما في حضنها؛ كأنما أرضعتهما مَغلِيَّ اليانسون!.
تابع جَدُّكَ أوامرَه:
– حَضِّرا المربَّع الفوقاني لضيفتنا؛ بَدِّلوا وُجُوهَ المخدَّات والشرشف. ثم التفتَ نحو عَمَّتيك الصغيرتين: – إذهبا أنتما أيضاً.. للمُساعدة. وبَقِي وَحدَهُ معها؛ يُدَرغِلَان بالفرنساوي؛ وبينهما.. طفلانَ نائمان.
عَلَّقَت ضُرَّتِي صافيناز: – شفتيها ما أحلاها.. أمَان يا رَبِّي أمان.
فقلتُ لها: – ادخلي مِثلي في بابِ التطنيش؛ مُفاجآته لا تنتهي.
ولمَّا أنهينا ترتيبَ العَلِّيَة لها؛ بادَرَنِي جَدُّكَ: – تُريد ضيفتُنا أن تتحمَّم.
ثم ذَهَبَ إلى حَمَّام السوق يتفِقُ مع الحَمَّامجِي:
– احجزه لنسواننا فقط؛ وقُل لزوجتكَ أن تأتي.. أريدها أن تًمعَكَ الفرنسيّةَ مَعكاً؛ وتَفرُكُهَا فَركاً حتى تصيرَ كالشَوندَرَة؛ ولا تنسى بَيلُونَةَ الزرنيخ.
فضحك أبو سليم:
– ستكونُ كالعروس المَجلُوَّة؛ إذا خرجت سالمةً من بين يديّ أمّ سليم.
– حَضِّر الأراكيل يا حاج وطاولة الزهر؛ سنسهرُ معاً في البَرَّاني.
قالت جدّتي نفّوس: – كان حَمَّاماً لا يُنسَى؛ نظّفوهُ جيداً قبل مجيئناً؛ ثمّ شطفوه بماء الزَهر؛ وضعَت أم سليم “جَبَسَةً” بطيخةً حمراء في بُركَةِ البَرَّاني لتبرد؛ ثمّ جَهَّزَ زوجها الشاي بالزنجبيل؛ كان كيسُ التَفرِيك العَجَمِي واللِيفَة المشغولة بالمَخرز وصابون الغار المُطيَّب بالعنبر في انتظار الفرنساوية؛ ثم أدخلتها أمّ سليم إلى “الخَلتَه” ونقعتها هناك مع طابات بيلونٍ بالزرنيح تحت إبطيها وما بين فخذيها؛ ثمّ صَبَّت الماءَ فرأينا شَعرَ إبطيها وعَانَتِهَا.. يكرُجُ كَرجاً إلى المَسرَب؛ سمعنا الفرنساوية تشهق من الدَهشَة وتُبَرطِم؛ ثم خرجت كالشوندرة المسلوقة على نارٍ هادئة.
تابعت جدّتي نفّوس ضاحكةً:
– كيف نَجَت هذه العِصّ مِصّ من تلك الليلة.. لا أدري؟!.
ثم تنهَّدَت وهي تنظرُ في صورة ماري لين بالأبيض والأسود:
– انبسِط يا حفيدَ جَدِّك؛ لديك ثلاثُ جَدَّاتٍ؛ وثلاثُ عَمَّاتٍ؛ وعَمَّان؛ أحدُهُما: عَمُّك بهاء الدين.
– مين الثاني.. يا سِتّي.
– نجيب ماري لين.. الفرنسي؛ إذا لم يكذب عليَّ قلبي.
ثمّ أشارت بإصبعها إلى الطفلِ الذي مع ماري لين في الصورة؛ وأردفت: – شوف.. ألا يُشبِهُ جَدَّك خَنطَأ مَنطَأ.
كان يُشبهُهُ بالفعل؛ لكنّي قُلتُ.. لأُخفِّفَ من هواجِسِهَا:
– يخلق مِن الشَبَه.. أربعين؛ يا سِتّي.
– تقرِصنِي أمُّ الأربعة وأربعين؛ إذا ما كان عَمَّكَ الفرنساوي!.
….

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!