جدتي والذئب/ بقلم: أيمن الرواشدة

حين غصَّتِ الجدّةُ بالذكريات وامتلأت مآقيها بالدمع فاضت، وكانت من قبلُ تَغَصُّ بالوُرَّاد، ِحين كان فناءُ بيتِها يفيضُ خبزاً وعسلاً ومواعينُها تطفحُ سمناً ولبنا ..
كان أبناؤها يتحلّقونَ من حولها يستدفئونَ تارةً بأحاديثها المُغرِقةِ في المجدِ والفخار، وتارةً أخرى بعبائتها الدافئة حين يقرصهم بردُ الشتاء..
ظلوا كذلك عقوداً إلى أن تسللَ التعبُ إلى مفاصلِها وسرتْ في جسدها رِعْدةُ الجوعِ والمرض.. انقطعت عنها أرْجُلُ الزائرين.. وقلَّ طُرّاقُ ليلِها، ونُدماءُ حكاياتها.. صارت أقداحُ الشفقةِ تأتيها على هيئة مُعلّباتٍ لم تندرج في سجلِّ مطبخِها الأنيق، الذي لم يكد يخلو من اللبن والغبيب والسمن والتمر والحلاوة والزيت والزعتر.. أما أحبتُها المُقرَّبون فقد استبدلتهم مع الأيام بحيطان منزلها التليد تتكئ عليها حين تقومُ وتسندها حين تميل.
جفَّ ضَرْعُ الزمان حين انبهرتْ الأجيالُ بالهواتف الذكية التي زادتْهم غباءً ونُكرانا. ففقدوا رابط الصلة بماضيهم المجيد، وحاصرهم الفناءُ من كل مكان..
في كوخها الخشبيِّ على شاطئ البحر ركنتْ الجدةُ إلى ظِلال آخر سنديانةٍ احتفظ بها الحقلُ ونجتْ من فؤوسِ الحطّابين.. كانت الجدةُ تتلو على نفسها قصصَ الأمس حين كان عنترةُ يفُلَّ بسيفه طموحَ الغُزاةِ العابثينَ بحدود القبيلة.. وأشعار الزير حين شتمَ بها العارَ بعد مقتل أخيه كُليب غدراً.. ومع كل حكايةٍ كانت بئرُ الدموع تمتَحُ ما تبقّى في محاجرِها من الألم.. فلا تستفيقُ إلا على أقدامِ ليلى المتعثّرةِ تأتيها حاملةً على ظهرها سلةَ كعكٍ لا تكاد أسنانُها تنالُ من يُبوستِها.. تُلقيها في حِجْرِها ثم تمضي غيرَ آبهةٍ بنداء الجدةِ: تريّثي يا بُنيَّتي.. اجلسي معيَ قليلا أُحدّثكِ عن الحياة والحب والكرامة..
تلوّحُ ليلى بمنديلها الأحمرِ صارخةً: كفى يا جدتي.. أرهقتِني بأحاديث الأمس الغابرِ وتُرّهاتِ امرئ القيس وصَبَواتِ المُهلهِل وغباء السَّموأل.. نحنُ جيل (الفيس).. لا يعنينا ماضيكم الخَرِف..
ثم تختفي في الظِّلالِ البعيدة.. قافلةً من حيثُ أتتْ..
ضاقتْ ليلى مع الأيام بمهام تزويدِ جدّتها بالكعكِ المُتحجّر. وفي عَشيَّةِ ليلةٍ أعدّتْ الأمُّ سلةَ الكعك، وقالت لابنتها: تعالي يا بنيتي وخذي هذا الكعك لجدتكِ، عسى أن نرتاحَ منها عما قريب. تأفّفتْ ليلى، وقالت : إلى متى يا أمي نرعى هذه العجوز؟!
قالت الأم : اصبري يا بنيتي، واللهِ لولا عتبُ القبائل المجاورة لما وَصلْتُها.. ولكن ماذا عسايَ أن أفعل. أنا أكثرُ منك ضجراً بها..
ارتدتْ ليلى وشاحَها الأحمرَ وأخذت السلةَ ومضتْ في طريقها.. ولما كان الطريقُ طويلاً والسلةُ ثقيلةً، كانت ليلى تُلقي بين كل فينةٍ وأخرى بعضاً من الكعك حتى كادتْ السلةُ أن تفرغَ.. وعند أول مَفازةٍ، التقتْ ليلى حبيبَها أوس الذي كانت تربطهُ بها صداقةٌ حميمة.. وأوسُ شابٌ يافعٌ تفيضُ عيناهُ خُبثاً وذكاءً، لطالما حدّثَ ليلى عما يجولُ في خاطره تُجاهها من الوُدِّ والحب، وليلى غارقةٌ في هواه حتى حاجبيها المُرقَّقينِ .. قال لها في لحظةِ انتشاءٍ: ما الذي يُجبركِ يا ليلى على خدمة هذه العجوزِ الشمطاء في الطرف القَصِيِّ من القبيلة؟! لِمَ لا تدعيها تموت وتنتهي من عذاباتها؟!
قالت ليلى: يا ليت يا أوس..
أخشى أن يُقال تركناها وحيدةً ونسينا تاريخها الحافلَ بالقصص والذكريات..
وظلَّ أوسُ يزيّنُ لها تركَها حتى ابتسمتْ ليلى لخُبثهِ، وطأطأت أُذنيها لمعسولِ وعوده.. فاتفقا على أن يرتديَ أوسُ ثوبَ ذئبٍ فيعدوَ عليها فيقتلها في أرضها، فيخلو له وجهُ ليلى وقلبُها.. ثم يأتيانِ في المساء على جلبابِها بدمٍ كَذِبٍ ويقولان لأمها أن الذئب أكلها ونحنُ عنها غافلان..
استطاعت ليلى بكل براعةٍ أن تُقنعَ الذئب ليأكل جدتَها، وعادت لأمها بسلة الكعك..
أقامت القبيلةُ عزاءً كبيراً يليق بالمرحومة.. تناولوا فيه الكعكَ المُحلَّى.. ثم خطبَ أوسُ ليلى إلى أمها..الذي كان لا يستطيع أن يُخفيَ عنها إعجابَهُ ببيت ليلى المُنيف وبُستان أهلها الممتلئ بالخيرات.. وافقت الأمُّ واعتُبِرَتْ موافقةُ الأبِ تحصيلَ حاصلٍ..
فأقيمت الاحتفالاتُ والمهرجاناتُ وأُزيلت الحدودُ المزعومةُ بين القبائل وعمَّ الفرحُ والسرور والفسادُ والانفتاح.. وامتلأتْ الأرضُ بالشياطين الجميلة..
وانتهت الحكاية الأصيلة …..

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!