جريمة في عتمة الضباب/سامر المسالمة (أذرعات العتيقة) .

الغرابيب تملأ سماءها ضجيجاً
فوق كل بيتٍ من بيوتها الزرقاء. هناك غراب يرتدي بزته السوداء. يوشك أن يلقي بأحماله فوق بيوتها الغارقة بالظلام .
لقد عانت شبكة الكهرباء الوطنية من الشلل التام عن القيام بأي احتكاك فيزيائي بين أقطابها لتوليد القليل من النور لأفراد شعبها المسكين .

صرخات تتعالى وأنين يزمجر بالقرب من حارة البدو بأحد أطرافها المترامية .

يقول قاسم: أحد رفاقنا القدامى،
لاشك أنه صوت امرأة. قد فقدت للتو جزءاً عزيزاً من كبدها لربما طلقة القناص المتموضع كالمومياء فوق حاجز الخزان. مارس للتو هوايته الليلية بحفر العظام، وسكب الزرنيخ في نخاعها .

يقاطعها مراد: وما يدريك يا قاسم، لعله الجوع بعد شهورٍ من الحصار .الأنين لايتوقف ويزداد صخباً كلمااقتربنا من المكان .

سيارة أمريكية صفراء اللون من نوع “شفر نوفا”، يختبيء خلف مقودها رجلٌ في العقد الرابع من العمر ,, نقترب منه بخطى حذرة ,, يرتدي قميصاً بني اللون، وعيونًا مرتبكة فقدت الجفون في محاجرها أي حركة رياضية ومنذ زمنٍ غابر ,, إضاءة خافتة داخل حجرة القيادة .

من أنتم ياشباب: يقول بصوتٍ متهدج .

: “بل من أنت أيها المجنون. ماذا تفعل هنا في هذه اللحظات الحرجة من تاريخ المنطقة ؟”.

يشعل سيجارةً ذات عينٍ ماكرة .
يرمقنا بنظرات متوسلة صامتة .

لقد عرفتكم .
ويبدأ بعد أسمائنا بطريقة الإحصاء التكراري المتصاعد .

يستل سيجارته ثانيةً .

ينفخ دخانها البريء من أية علاقة بدخان المحومات فوق البيوت .

تتحرك شفاهه
زوجتي على وشك الولادة .
لقد داهمها المخاض قبل الموعد الذي أعلنته طبيبة الأمراض النسائية .

لا أدري ما أفعل .
أخشى إن استدار مفتاح السيارة أن يكون بداية دخولي العالم الآخر .

فالقناصة فوق الأسطح القريبة يخافون من أي شيء .

مع ذلك لا بد من اتخاذ قرار تاريخي بالمجازفة لنقل زوجتي إلى المشفى الوطني … فالوقت يمضي بسرعة وهذا يشكل خطراً على حياة الجنين .

يقاطعه قاسم .
27 مليون جنين في البلد بحالة خطرة ياجار .

لكن لم تقل لي ما اسمك وقد عرفتنا .

يجيب ذلك الجسد الذي خارت قواه .
أنا موسى .
وهذا بيتي .

أستمحيكم عذراً .

سأذهب وحدي بالسيارة نحو الحاجز مشعلاً الأضواء الرباعية .

لعلي أحظى بموافقة الضابط المسؤول بالسماح
لي بنقل زوجتي إلى المشفى .

رفيقنا مراد .
يحاول ثنيه
يمسك ذراعه ويجذبها بعنف
وبصوتٍ هامس
إياك.!!
سيقتلوك ياموسى .

لا تفعل ذلك
لقد اتّخذوا قرارهم باعتبارنا من أعدائهم .

يزفر موسى بغضب .
هل يعقل أن يقتل الأخ أخاه .؟؟

الجيش إخوتنا .

وعلى حين غفلة من المنطق .
يدير مفتاح سيارته بحركة هيدروليكية تتحكم بها مخاوف الزوج وخشيته على نصفه الآخر من الموت .

تتصاعد من غليون السيارة رائحة الدخان الممزوج بالزيت .
يصدر محرك السيارة أوامره للعجلات بالتحرك
تمضي نحو طريقها على الأوتستراد الغربي الواصل إلى حيث يجثم حماة الوطن .
إنهم هناك يتمترسون خلف تلك الأكياس المملوءة بالتراب .

دقائق قليلة فقط .
تتعالى أهازيج البنادق .

رصاصة تخترق الرأس
الجثة ساكنة دون حراك .
عرفنا ذلك بعد شروق الشمس مستخدمين مناظيرنا المكبرة .

رحمك الله ياموسى .

لقد قتلوه إخوتنا في التراب .

بعد أقل من ثلاثة أشهر
تصعد الزوجة المثكولة بمقتل زوجها المسكين لتنشر الملاءات وبعض من ألبسة المولود الجديد .
..
هل ولدت الزوجة .؟!

نعم
وأنجبت أنثى .
بمساعدة جارتها الطاعنة بالسن أم نائل فالعجائز لا يمكن الاستهانة بقدراتهن في مثل تلك الأمور .

سطح المنزل لتلك الأسرة المكلومة. يطل على مسرح الجريمة
أحدث نفسي
لعلها كانت تحاول تفسير ما حدث .

شيء مؤلم أن ترى سيارة زوجها المتخمة بالرصاص تضم بين قطعها المعدنية جثة تعفنت دون أن تحظى بمراسم الدفن .

في زمن الحرب .

قبرك حيث تقتل .
وما يحيط بك من معالم هو اللحد .

رصاصة تعبث بدماغ الزوجة .

مع ثاني قطعة قماش تضعها على حبل الغسيل ,
تختلط رائحة مسحوق التنظيف بدمائها الندية .

يزحف أحد الجيران من أبناء عمومتها لينتشل جثتها واضعاً في الحسبان أخذ جميع الإحتياطات منعاً من سقوط جثته كفريسة ثانية لشهوة القناص الجشع .
وكعادة الموت في بلدي
تعزف أوركسترا الوداع الموسيقى، والتي لا تعدو سوى صرخات ونواح الأقارب والجيران، ويتم دفن الجثة دون رضاها .

حدث ذلك في حارة البدو في ربيع 2012 .
…………

الوقت الآن سنة 2017

سيارة دفع رباعي من نوع” تويوتا “يسميها المقاتلون “شنب”

قادمة من بين الهضاب التي تلف المدينة .

تضع أغنية شعبية مطلعها ((لزغرد صوت البارود وشفت السما مضوية ))
تسبحُ بنهم في سهلٍ متموج نمت فيه أشجار السنديان والبلوط والزيتون وبعض تلك الأشجار ربما منذ زمن الغزو الفارسي للبلاد .

تحت حرارة شمس حارقة لكنها لم تتجاوز حسب مقياس فهرنهايت بعد
سخونة سبطانات المدافع ذات الزعيق المتقطع بين الفينة والأخرى .

إنها سيارة الثوار .
ثلاثة من الشباب، وكلهم من أبناء المنطقة نعرفهم جيداً ونعرف أقاربهم,, سحناتهم ولهجتهم ,, خالاتهم وعماتهم ,, إنهم أبناء الأرض .

تدخل السيارة الحربية حارة البدو .
ملامح كثيرة تغيرت بعد أعوام من السخاء، التي جادت بها الدول الصديقة، والمعادية بما لذ وطاب من أجود ما أنتجته مصانع الحديد والصلب .

كذلك الأشكال الهندسية للمباني تبدلت .
فما كان مربعاً بات مخروطي الشكل
وما بني بشكل مستطيل باتت زواياه غير متساوية .

لقد عبثت مجريات الميدان بالهندسة المعمارية وبرضا كافة الفرقاء .

ينزل من السيارة” الشنب” رمادية اللون شاب قد بانت عضلات يديه المفتولة ,, يحمل كاميرا من نوع “كانون” عوراء بعين واحدة .
على الرغم من فقأ عينها الثانية وفق رغبة الشركة المصنعة وبما تقتضيه طبيعة عملها لكنها تعتبر شاهداً لا يكذب وهي الأكثر مصداقية في محاكم العالم الإفتراضي .

يدخل الفتية دكاناً بائسة علقت على رفوفه الصدئة أكياس الشيبس والحلويات، وزجاجات من العصائر التي فقدت برودتها لعدم توفر الكهرباء .

صبية بالقرب منا .
تلهو بالفيطبول (كرة القدم).
أرجلهم تركل الكرة وأيديهم تقوم بمهمة إيصال قطع الشوكولاته إلى مثواها الأخير بين فكين نخرهما السوس .

طفلة ذات عينين عسليتي اللون .
بظفائر مجدولة لكنها غير متناسقة بعض الشيء .

ترتدي بلوزة زرقاء، وبنطال من الجينز فقد بعض خيوطه القماشية؛ نتيجة دخوله في مرحلة الشيخوخة .

تأكيدات بأنها من أسرة فقيرة .

تنزوي عن الأطفال .
تراقب بوقار أولئك الصبية الذين يلعبون بالكرة بالقرب منها .

خجلت يداها من حمل أي قطعة شوكولاته؟؟

كأني عندما اقتربت منها .
وجدت نقشاً سيذكرني بعد قليل بفاجعة مرت منذ أعوامٍ مضت .

مرحباً ..
شفاه مطبقة، وعيون تكاد بغرامها النقي أن تغازل صفحة السماء .

لا تجيب بشيء .!

لكن قولي لي: لماذا لا تلعبين مع الأطفال؟.

دمعة ساخنة توحي لك أن قطاراً مر لتوه أحال دمعتها بخاراً .

بهمسات متهدجة .
إنهم يرفضون اللعب معي .

ولمَ؟

اس.ْألهم لا أدري .

حسناً .
ما اسمك
تجيب الفتاة الصغيرة .
اسمي شمس .

أمي رحمها الله أسمتني بهذا الاسم؛ لأني ولدت صباحاً .

عمتي أخبرتني بذلك؟.

أمك ميتة يا شمس .
نعم لقد ماتت، وأنا عمري ثلاثة أشهر فقط .

وعمتي تقوم برعايتي .

إنها تعيش هناك .
تؤشر بأناملها نحو بيتٍ من غرفة واحدة تعلوه رقائق الصفيح .
بابه خشبي لم توفر له الحكومة أي نوع من الطلاء .

في مدخلة تموضعت قطع فخارية من أصص الورود وتحيطه كتل إسمنتية متداعية نتيجة القصف الممنهج على الحي .

ماذا يعمل أباك ياشمس .
أبي متوفي أيضاً .؟

لاحول ولا قوة إلا بالله .
وما اسمه ياصغيرتي .

شمس .
اسمه موسى

تتراقص الذاكرة كغجريةٍ نذرت ألا ترقص إلا على الجمر ..

إنهااإبنة ذلك الرجل الذي قتل، وهو يحاول نقل زوجته نحو المشفى الوطني .

هنيهات قليلة، وستكسر المياه ذلك السد المنيع .
تتدحرج بلورات الدمع، كأنها السعير الذي لا يرحم .

لقد كنت شاهداً ذات يوم على ما حدث .

هربت الصغيرة
فتكنولوجيا الطفولة لا تجيد تفسير مثل تلك الأشياء .

لكنها وعدتني أن تعود
هذه الحسناء التي تشبه سورية في جمالها،
لتعيد إلينا جميعاً إنسانيتنا، وتزرع في سبطانات مدافعنا الكثير من شجيرات الياسمين، لعل رائحته تفلح يوماً بتلطيف أجوائنا العابقة برائحة الدم والبارود .

شمس تلك الطفلة الوحيدة التي ما زالت كاميرتي تبحث عنها، لتلتقط لها صورة بأدق تفاصيل وجهها الملائكي في زمنٍ بات الجميع يحن إليها .

بقلم / سامر المسالمة

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!