جزيرة الحياة في زمن الموت / بقلم : القاصة – هيفرون أحمد صوفي

كان الجو كئيباً ، المكان خالٍ تماماً ، لا يوجد سوى بعض القطط والكلاب تجوب الشوارع الملئة بالأوساخ والنفايات ، أوراق الأشجار بدأت تظهر للعيان ، لكنها مازالت خالعة ثوبها الجميل ، الجو بارد كئيب ، كثرت الغربان والجو مخيف ، وهي لا تذكر شيء من ذاك الزمن والمكان .
مضت غير آبهة وصوت طبيب أجش يخبرها بأنه للأسف ، الفايروس أتلف خلايا الذاكرة والحمد الله أنه توقف عند هذا الحد، وأن نجاتها معجزة .
هي لا تملك المال ….. لا تذكر اسمها … ولا أين تسكن وإن بدت المدينة خالية لا تصلح للسكن ، يبدو أنها مهجورة أو مات أغلب سكانها ، صفير رياح قادمة ، وأقدام كلاب تتقدم منها ومواء قطط مذعورة ، هي لا تعلم إلى أين المفر ، كل الطرق خالية تسير نحو الظلام ، ركضت بسرعة وأنفاسها متقطعة ، فهي تجزم أنها رأت أشباح تلاحقها ، بكت من غير دموع ، لا تعلم أين ستذهب وما تلك الطريق التي وصلت إليها سوى مأوى للفساد وما أن يحل الليل حتى يتكاثروا .
لا يوجد سيارة تقلها ولا شخص يرافقها ، لكنها ستمضي ، هو يظن أنها محظوظة حين نجت مما هي فيه وهي تقول غير هذا ، لا تجد ما تأكله حتى شاركت القطط طعامها ، وما زالت تمضي ولا تعلم في أي يوم أصبحت ، طائرة نفاثة رأتها من بعيد … أسرعت وأسرعت تصرخ … ساعدوني ارجوكم ، لم يكن بها سوى شخص وحيد ، يرش المبيدات ويعقم المكان ، قال لها بتعجب : من أين أتيت يا إمرأة ؟
قالت : من هناك ، وأشارت بعيد هناك … وبكت لا أعلم أنا ضائعة
قال لها : ما أسمك ؟
اسدلت رأسها لا أتذكر
يا لك من إمرأة مسكينة ، كيف بقيت على قيد الحياة في هذه المدينة الميتة ؟
لا أعلم ربما كنت مثل ما قال الطبيب ، أنا إمرأة محظوظة إذ نجوت بأقل الخسائر
قال لها : وماهي أقل الخسائر ؟
بكت قائلة : وطني ، امي ، ابي ، اسمي ، وإلى من أنتمي ، واجهشت بالبكاء ، فاقترب منها وضمها لصدره ، لا تبكي يا قمري ، لا تبكي تعالي فالجو بارد سأقلك معي لترتاحي .
صعدت معه وحلقا عاليا ليهبطا عند كوخ بسيط ومكان فارغ ، لكنه جميل الحياة تدّب به ، وبه أزهار وجدول ينساب منه الماء
آه كم أنا عطشى اقتربت تشرب وتروي أوردة جفت ويبست ،
نظر لوجهها اليانع وعينيها اللامعتين ، وضحكتها الخجولة ، همس ما أجملك يا إمرأة من المجهول أتيت ، تبسم لها وقدم لها بعض الطعام ، هيا لنتقاسم الطعام يا قمري .
قالت له : اتقطن هنا لوحدك ؟
نعم لم يبق من أسرتي أحد ، تركت المدينة في عاصفة هوجاء اقتلعت الاخضر واليابس و وجدت نفسي هنا على هذه الجزيرة الجميلة ، ذاك الرجل ، وأشار لقبر قريب من الكوخ مزين من حوله الزهور ، هو من ساعدني ، رحمه الله وهذه الطائرة والمكان يعود له ، كل يوم أجوب السماء أبحث عن من أعرفه لكن المكان خال تماماً ، فكوارث كثيرة حلت بهم ، كانوا تعساء ، ما طرق الحب حياتهم ولا عرفوا الوفاء والطيبة ، الجشع أكل بعضهم الأخر والطمع أوقع بهم ، حتى غنيهم كان فريسة دسمة لشبح الموت ، لم تشفع له أمواله وكل نفوذه ، كان يبكي ولا يستطيع التنفس ، لم يقترب منه أحد سوى خادم طمع في ماله ، فجمعه ومضى ، وقد رأيت الطيور تحوم حول جثته ونقوده الملوثة بقربه .
لمَ لم تأخذ الأموال وتمض ؟
لا حاجة لي بها ، إن شبح الموت يلوح بقربها وليس عندي عائلة لأصرف المال عليها .
بدت علائم الحزن عليه فاقتربت ورتبت على كتفه وأمسكت برأسه ، و وضعته على صدرها ، لا تحزن أنا معك .
وكأن الحياة عادت من جديد لأوصاله ، نبت الربيع بين جنبيه ، وأشرقت الشمس بوجهه ويديه ، أحقاً ما تقولين !! هل تبقين معي هنا في هذه الجزيرة النائية ؟
وأين سأذهب وأنا لا أعلم عن حياتي السابقة سوى اسمي ،
أسمك ؟؟؟ ماهو اسمك !
قمري أنت قلت لي قمري أليس هو اسمي ؟
ضحك كثيرا حتى وقع على ظهره ، فاقتربت منه تضحك معه ، ما الأمر يا فتى ! وهل قلت ما يضحك ؟ وما زال يقهقه ويضحك حتى انهالت عليه تضربه ، فضمها بقوة إليه ، وكالوردة كانت بين يديه تنثر عطرها وضحكتها ، قبلها واحدة واثنتين ، وعصر رأسها بين كتفيه يمشط شعرها بيديه ، ما أجملك يا قمري … ما أجملك .
نهض مسرعاً وحملها بين ذراعيه وهي تصرخ ، مجنون اتركني … اتركني ، اقترب من البحر ، وكان صراخها اقوى من صوت هدير أمواجه ، تدرج البحر وهي بين يديه وأنزلها برفق ، أمسك يدها بقوة وحنان تعالي أنا معك لا تخافي أبدا ً ، لكنني لا اعرف السباحة ! قلت لك أنا معك هيا سأمسكك جيداً اقتربي يا قمري الجميل .
هي لا تعلم كم من الوقت مضى ، لكن الليل قد حل ، وهي تشعر بالبرد ، ادخلها الكوخ لتغير ملابسها ، وأضرم لها النار ، ولم تكن اشد حرارة من جسده ، هو لم يكن يقصد أن يرى نور جسدها الوردي كالمرمر ، أطرق رأسه ، فالنظرة الأولى في الشرع حلال ، ولم يكن بتاتاً يبحث عن غيره .
تعالي ياقمري فقد صنعت لك قهوة على جمر قلبي الملتهب ، يا إمرأة كسرت أقفال قلبي المُحْكَمة ، وروت أوردة قلبي اليابسة ، وأشعلت الانوار في عيني ، تعالي يا إمرأة الحياة والحظ والموت في أحضانك جنان ، اقتربي واحتويني ، فقد اذبت رجل الثلج بداخلي وأضرمت به النار ، كوني لي المأوى والملاذ ، كوني حبيبتي وعطر الحياة ، يكفي ما أضعنا من وقت ، الحياة كانت قاسية معنا ، وها قد حل النور والسلام .
لا أحد سوى أنا وأنا هنا ، لا همس سوى أنفاسك ، لا ربيع سوى ضحكتك ، أحبك يا إمرأة أتت من المجهول ، لتفتح كل الحدائق بجسدي المفتول .
اقترب منها وهي كشمعة تذوب بين يديه ، ويضيء العمر من جديد ، بحب ولد ليبقى ويعيش ،
أحبك …. يا عمري الجديد ، يا حلم رأيته في بطن أمي الجميل ، أحبك يا رجلاً من زمن الموت أعادني من جديد .
وعلى صوت زقزقة البلابل غفيا يحلمان بغدٍ سعيد .

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!