حدث ذات يوم من سنة 1936 / بقلم : محمد بنعمر 

      الطابور  يتقدم بسرعة أمام عريف جالس الى طاولة في ظل عربة عسكرية . فوق الطاولة سجلمفتوح  ومحبرة ، و ريشة في يده .  بجانبه رقيب .  وعلى بعد خطوات يقف جندي ذو بشرة داكنة يقومبدور المترجم .  انهم يكتتبون المتطوعين للتجنيد في الجيش .  يتفحص الرقيب بتمعن  أول الطابور منرأسه الى قدميه ، يهز رأسه موافقا و  يتقدم هذا الأخير خطوتين . يصرخ اسمه ، عمره ، واسم ابيهومدشره الذي يسجله العريف في السجل . يتجه نحو العربة و يأخذ مكانه في مؤخرتها  .  امتلأت العربةولَم يبق إلا متطوع في آخر الصف . يبدو طفلا بجسمه النحيف  وذقنه الأجرد ، ابتسم الرقيب ، ونصحهأن يرجع  الى أهله ، ربما  تكون أمه منشغلة في البحث عنه . أمر السائق أن يدير  المحرك ويختفي . بقي وحيدا ، يغمره اليأس . رأى رفاقه يبتعدون والعربة تجأر و تخلف زوبعة من الغبار وراءها . تجاهلالرقيب ، و تعقب  العربة بساقيه التي تشبه ساقي سلوقي ، لحق بها وبقفزة بهلوانية وجد نفسه داخل العربةوسط  رفاقه .

    اندهش العريف  ، وبدأ يصيح ويحثه على النزول ولكن الرقيب ابتسم أيضا وأمره أن يتركه ويضيفه في الثكنة .

  في الثكنة ،  رش جندي رؤوسهم بمسحوق مضاد للقمل ، وآخر اقتادهم الى مرشات الاستحمام  و ناوللكل واحد منهم قطعة صابون ومنشفة . بعد الاغتسال ، وجدوا جنديا حلاقا ينتظرهم بماكينة الحلاقة . بعدقَص شعرهم ، ألبسوهم  بذلات رمادية . بعدها اصطفوا أمام مصور ليأخذ لكل واحد صورة فوطوغرافيةليزودوهم  بهوية شخصية . أتى الرقيب و وجد جنودا غير  البدو الذي انتقاهم من ساحة السوق . ابتسمراضيا ودعاهم الى وجبة خفيفة في  قاعة الأكل .

   أحس الجند الجدد  بارتياح و نشوة تجتازهم  معتقدين أنهم قد ودعوا أيامهم البئيسة و انشغالاتهم  عنمصدر لقمة العيش . فقد  ضمنوا  راتب كل آخر شهر . لم يعرفوا سبب  تجنيدهم و لا أحد أخبرهم عنالحرب التي اندلعت في الضفة الأخرى فيما بينهم ولا عن  إبحارهم المرتقب    والأرتماء في فم الذئب .

    في الثكنة  أخذوا  يتعودون على حياتهم الجديدة والجماعية  . حياة متعبة و لكن يبدون  كأنهم فينزهة . يستيقظون في الصباح على صوت نفخ البوق الذي يفيق أيضا الديكة التي  تبدأ بدورها فيالصياح . في الخارج يطل النهار بخجل  من بعيد   . الضباب بارد مبلل بالندى . يصطفون أمام العريف ،ويبدؤون المشي في الهضاب المجاورة و كيس ثقيل فوق ظهورهم .  يتدربون على تحمل التعب .بالنسبة لهم المشي وهم يستنشقون نسيم الفجر أقل شقاء  من العمل تحت الشمس الحارقة    . يشعروندائما  أنهم في نزهة حتى وزعت عليهم البنادق  . اقتادوهم الى مكان خال من السكان وابتدأ درس فيذخر السلاح و صوب الهدف . بعده بدأت الرصاصات تصفر وتنفجر ، أجواء  تشبه  أجواء الحرب ولكن بدون عدو . هنا ادركوا أنهم ليسوا في نزهة وشيئ يشبه الجحيم في انتظارهم .

         مرت أسابيع على هذا المنوال ،  التمرين على تحمل  التعب والمعاناة و التعود على استخدامالسلاح . عدم الثقة في سلوكهم المتمرد الذي يمتاز به المجندون  تلاشى ، تدجنوا . الانضباط كانتالقاعدة . بدؤوا يفهمون لغتهم واستغنوا عن  ترجمان . مرة في الأسبوع ، يوم السوق ، يتحررون .يلحقون أهلهم مع بعض البسيطات في الجيب  وصفيحة من الزيت و رطلين من السكر مهداة لكل مجند .الزيت والسكر كانتا عملة نادرة بعد مواسم عجاف . كثيرون ، اعتبروا التجنيد  شغل شريف  مادام لايؤذون بني جلدتهم خلافا عن ما وقع قبل عقد من الزمن  حين قاتلوا الذين جندوهم  . كانوا يتخيلون أنالأمر سيدوم على ما هو عليه . تجاهلوا شرارة الحرب التي اندلعت ما  وراء البحر  ولأجلها جندوا .

  و ذات صباح ، أخبرهم الرقيب أن يستعدوا للإبحار فإن بابور بخاري في انتظارهم . هناك ينتظرونهمللدعم  للزحف  نحو الشمال . هناك من استغرب من الخبر  وسأل إن هم أيضا مستعمرين . هنا عرفواأن حربا اندلعت فيما بينهم من أجل السلطة . وسيقاتلون  لطرد الحمر أو ما يسمى بالجبهة الشعبية التيوصلت الى سدة الحكم عبر الانتخابات ، أي سيقاتلون الى جانب الأنقلابيين .

   مرت شهور ولا أخبار عنهم  .  بدأ اليأس عند أهلهم  . غيابهم بدأ يتحسس في  تصرفاتهم   . النساءيشتكين الوحدة ولا من يُطفئ شبقهن  ، والآباء فقدوا سند لهم .   أصبحوا مثل مسنون ضاعت منهمعكازاتهم . حتى السكر المهدى لهم تغير ذوقه ، أصبح مرا . ادركوا  أن الحرب تشبه الجحيم  . لم يتوقفالأهل عن  الصلاة  و لا التذرع الى  الله كي  يرجعهم  أمنين   ، و منهم من يقدم ذبائح للأولياء .

   النحيل الذي كان في آخر الطابور ، ترك فراغا لدى أهله . خاصة عند أمه . لم يغمض لها جفن .تصرفاتها تغيرت . مثل دجاجة أخذ منها فراخها . مرة تتوسل ومرة تحث ابنها البكر ليحصل عنمعلومات عن صغيرها  أو  أن يسافر   ليبحث عنه  حتى تحت صفير  ولولوة الرصاص .  هذا ما وقع، تدبرت  الأم

مصاريف السفر ببيعها ما كان لديها ثمين ، بقرتها . البقرة  التي حصلت عليها بمشقة ، بعدما غزلتصوف الآخرين لمدة طويلة . ولا شيئ أثمن من * مازوزها * .حصل على  أوراق السفر بعد بعضالترتيبات و دس ثمن البقرة في جيبه و أبحر في البابور البخاري حيث يلعلع الرصاص .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!