خَيْبات تَناسُلِيَّة/بقلم: طارق قديس

“المصائبُ لا تأتي فُرادى”، أخذ يُرَدِّدُ هذا المثل مِرارًا وتِكرارًا، فيما هو يَمشي في أرجاءِ الغُرْفَةٍ جيئَةً وذَهابًا، مُطَأطِأً رأسَهُ للأرض، والقَلَقُ يَخُيِّمُ على ملامِحه، وذِراعاهُ مَزْمومَتانِ إلى بعَضِهِما خَلْفَ ظَهْرِه.  حاولتْ زَوْجَتُهُ أنْ تَحُدَّ من تَوَتُّرِهِ، قالتْ لَهُ بالحَرْف: ” رُسوبُأبنائِنا الثلاثةِ هذا العام ليس نِهايةَ العالم! البركة في ابننا الأصغر، أنا مُتفائِلة، فهو لم يَرْجِع من المَدْرَسةِ. لا بُدَّ أنه ناجحٌ ويحتفِلُ الآن مع أصدقائِه بهذه المُناسبة”. لم تَكَدْ تُنْهي هذه الجُملة حتى انفجَرَ فيها غاضِبًا، وطَلَبَ منها أن تَخْرَس.

ما هي إلا ثوانٍ وعاد للحديثِ معها، والمَرارَةُ تعتَمِرُ حُنْجُرَتَه، قال لها إنَّها لعنةٌ حَطَّتْ على العائلة، والخيباتُ التي أخذتْ بالتَّكاثُرِ في منزلِهِ ليستْ وليدَة الصُّدْفَة، أو ضَرْبَةَ عين، إنَّها خيباتٌ حَمَلَتْها عائِلَةُ أبيها في جيناتِها الوِراثِيَّة، تلك العائلة أنْشَبَ الفَشَلُ أظْفارَهُ فيها ووَجَدَ في أبنائِهِ بيئةً خَصْبَةً للتَّناسُل.

بلا هوادةٍ أمْطَرَها بالسُّباب، وكالَ لها عِباراتِ الذَّم والتَّقْريع. نَفَضَ الغُبارَ عن الصندوقِ الأسودِ لذاكرَتِها، استعرضَ سيرةَ أبيها في ليالي السَّهر على طاولِةِ القِمار، وأمِّها البَلْهاء، وأخيها مُتعاطي المُخَدِّرات، وعَمِّها القابعِ خلفَ القُضبانِ بتُهْمَةِ السَّرقة، وخالَتِها المَمْسوسَةِ بالجِن. ولم يَعْتِقْها من سيل الشِّتائم تلك سوى دخولِ رابعِ أبنائها إلى المنزل.

لاذَتْ بابنها. رأتْ به طوقَ نَجاةٍ من الإهاناتِ المنهمرَةِ عليها كزَخّات الرَّصاص. أمسكتْ بذراعِهِ، ولم تُمْهِلهُ حتى يقعدَ على أقرب كرسيٍّ له، سألتُهُ عن النتيجةِ وعيناها تختَلِسانِ النَّظرَ  للزوجِ الثائر. لم يُبادِلْها الولدُ ذات الشَّغف، لكنَّه أثلجَ صدرَها عندما قالَ: لقد نَجَحْتُ بامتياز، أنا الأوَّل في شُعْبَتي.

بدا أنَّ الفأرَ ما زال يَلْعَبُ في صدرِ الأب، فاقتربَ منهُ ببُطءٍ، وقال باستنكار: ” امتياز!”، ثم بحَزْمٍ وقُوَّةٍ قبضَ قميصَهُ وجذبهُ إليه، وأخذَ يُعَنِّفُهُ قائلًا: ” أتَظُنُّني أبله حتى أصدِّقَ هذا الهُراء؟”. أكَدَّ له أنها الحقيقة، زادَ التأكيدُ من شَطَطِ الوالد الذي لم تستَطِعفكرةُ التفوُّق المُفاجئ لابنهِالهامِل أن تَدورَ في رأْسه. طلبَ منه قول الحقيقة، فلا بأس أن يكونَ الثالث، أو الخامس، أو العاشر، أو حتى على حافَّةِ النَّجاح، لكنَّه ليسَ أجْدَبَ حتى يُصَدِّقَ أنَّهُ الأوَّلُ في صَفِّه. إلا أنَّ الابن أصَرَّ على ما قالَه، وأنَّه نَجَح بامتياز.

أمام هذا الاصرار خَفَّفَ الوالدُ من نبرَتِهِ الحادَّة، وأرخى قبضَتَهُ عن القميص، وسألهُ بهدوء: “أين هي الشَّهادة؟”. فوجِئَ الابنُ بالطَّلب. قَلَّبَ الأمر في ذِهْنِهِ، ثم رَدَّ بأنَّ المَدْرسة لم تُعْطهم شهاداتٍ مطبوعة، وإنما تمَّ إعلان الدَّراجاتِ شَفَهِيًّا فقط. أيقنَ من مَعالمِ الوَجْهِ أنَّ الحُجَّةَ لم تَلْقَ لديهِ آذانً صاغية.

لم ينقَطِع الجدلُ والصُّراخُ لنصفِ ساعَةٍ مُتَّصِلَةٍ، حتى قامَ الأبُ برميِ ثلاثِ شهاداتٍ على الطاولةِ مُدَلِّلًا على كَذِبِ الرِّواية التي تُلِيَتْ على مَسْمعهِ، ثلاث شهاداتٍ لإخوتِه من ذاتِ المدرسة تَشْهَدُ لهم بالسُّقوط المُدَوّي، لكنَّ شيئًا لم يتَغَيَّر، وظَلَّت الرِّوايةُ على حالها.

 

رمت الزوجَةُ اقتراحًا في الهَواء، آمِلَةً أن يَفُضَّ الاشتباكِ بين الاثنين. “لمَ لا تذهب للمدرسة يومَ غدٍ وتتأكَّد بنفسك؟”، لَفَظَتْ هذه العبارةَ ثم سَكتتْ. قَدَحَهاالزَّوج بنظرةٍ ثاقبةٍ فارتعَدَتْ فَرائِصُها،أتْبَعها بابتسامَةٍ صفراء، ثم قال بصوتٍ مُنخفض: “ألم أقل لك من قبلإنَّ الغَّباءَ لديكم وباءٌ لم يسلمْ منه أحد، ولا حتى أنتِ؟ غَدًا يوم الجمعة أيتَّها النَّبيهة!”. وبسرعةٍ استدارَ  إلى ابنهِ ولكزَهُ في صدرهِ مُتوعِّدًا: “أما أنت، انتظِرني ريثما أعود. لا تُفكِّر بمغادرة المنزل هذا المَساء فحديثي معك لم ينتهِ بعد”، ثم نحا بجسدِه إلى الباب، وصفقه مُغادِرًا.

عادَ بعد ساعةٍ وفي يده عُلبةٌ كَرْتونِيَّةٌ كبيرةٌ عليها صُورٌ غريبة لا تَدلُّ على ما بها. أصابَ الفُضولُ الجَميعَ. نسوا لُبَّ الإشكال، وجلسوا يتفحَّصونَ العُلبة، أما هو فقد شرع بإخراجِ قِطَعٍ كهربائيَّةٍ مُتفرِّقة وتركيبِها حتى أتى على آخرِها، فإذ بِجِهازٍ  طوليٍّ يُطْلقُ أشعَّةُ حمراء من الأعلى، وعن يمينه ذراعٌ أشبهَ بالمطرقة يتوسَّطُ غُرْفَةَ المَعيشة.

دأبَ في البحثٍ عن وَصلةٍ كهربائيَّةٍ في زواية الغرفة، ولمّا لم يجدْ دلفَ إلى المخزَنِ، فتَبَدَّت الفرصةُ مُواتيةً للباقين كي يحَلّلوا غُموضَ الجهاز، ويتعرَّفوا إلى الوافد الجديد. وما كانَ منهم حين فكّوا سرَّهُ حتى أطاحَ الأمرُ بِصوابِهم، إنَّهُ جِهازٌ لكشفِ الكَذِب!

في غضونٍ دقائق كان اللغزُّ قد حُلَّ تمامًا: الابن يقفُ أمامَ الجِهاز والضوء الأحمر مُسَلَّطٌ على رأسِهِ من الخلف، والوالدُ يقفُ إلى جواره استعدادًا لاستجوابِهِ في وُجودِ الجهاز الذي من شأنهِ كلما أخفقَ في الإجابة على سؤالٍ من الأسئلة أن تُوَجِّهَ له الذِّراعُ صفعةً على الخَدِّ الأيسر.

المُشهدُ لا يخلو من الفُكاهة، فما من سؤالٍ تمَّت الإجابة عليهِ إلا وتَلَتْهُ صفعة، لم يُفْلتْ أيُّ واحدٍ من عاقبةِ الصَّفعات: (السُّؤال: ما هو نرنيبك في الصف؟ الجواب: ممتاز، النتيجة: صفعة. السُّؤال: كم علامَتُك في مادة الرِّياضِيات؟ الجواب: 100 من 100، النتيجة: صفعة. السُّؤال: ماذا بالنِّسبة للغةَ العربية؟ الجواب: 100 من 100، النتيجة: صفعة. واللغةَ العربية؟ الجواب: 100 من 100، النتيجة: صفعة…).

مع تَوَرُّم الخَّد، أدركَ الابن أن أقصرَ مَسافَةٍ بين نُقطتين هي الخَطُّ المُستقيم، أي عليه الاعترافُ بالحقيقة، لذا طلب من أبيه أن يُطفئَ الجهاز، إلا أنَّه رفض الاستماع إليه ما لم يكن الاستماعُ أمام الجِهاز تَحَسُّبًا لأي تَحاذقٍ منه.

تم إعادةُ الكَرَّةِ مرَّةً جديدة، غيرَ أنَّ المفاجأة نزلتْ كالصاعِقةِ على الأب، فما زالت الصَّفعاتُ تتوالى مع كُلِّ جواب:(السُّؤال: ما هو ترتيبكَ في الصَّف؟ الجواب: العاشر، النتيجة: صفعة. السُّؤال: كم علامَتُك في مادة الرِّياضِيات؟ الجواب:   50 من 100، النتيجة: صفعة. السُّؤال: ماذا بالنِّسبة للغةَ العربية؟ الجواب: 50  من 100، النتيجة: صفعة …).أي ما زالت الحقيقةُ خافية.

تَوَسَّلَ الابن مُجدَّدًا أن يُطفَأ الجهاز  مقابلَ قولِ الحقيقة، وقد انتفخَ خَدُّه كالبالون، وعيناه مغرورِقتانِ بالدَّمع، إلا أن الوالد ظَل على عِناده في لحظةٍ لمسَ خلالَها أن معرفَةَ الحقيقة تُعادلِ الحَياة.

للمرَّةِ الثالثة تَمَّالاستجواب، إلا أن النتائج أتت ثمارَها، وتَحقَّقَ ما أراد، وتكشَّفت الحقيقة، بلا صفعاتٍ، أو تأوُّهاتٍ ، أو دُموع. إلا أنَّها كانت مُثْخَنَةً بالمفاجآت: (السُّؤال: ما هو ترتيبكَ في الصَّف؟ الجواب: الأربعون، النتيجة: لا شيء. السُّؤال: كم علامَتُك في مادة الرِّياضِيات؟ الجواب:   0 من 100، النتيجة: لا شيء. السُّؤال: ماذا بالنِّسبة للغةَ العربية؟ الجواب: 0  من 100، النتيجة: لا شيء …). عندها صُدِمَ الأب، أبكَمَتْهُ الصَّدمة  لوهلة. أرخى رأسهُ ونظرَ إلى الأرض. أحسَّ بخنجَرٍ يَخرُطُ في لحمه. ورأى أن سؤالًا آخر قد يحملُ معه الأمل، فرفعَ رأسه وزَفرَ ذلك السؤال: ” الأربعون! وكم عددُ طلّابِ الصَّف؟ فأجاب بتَمَهُّلٍ: عددُهُم أربعون. فلم يرَ الوالدُ نفسه إلا وهو يهوي بيدهِ على وجهِ ولدِهِ صافِعًا إيّاه، فيما هو يدورُ في الغرفة كثورٍ هائج، إلى أن انتصبَ أمامَهُ وقد أصبحَ أمامَ الجِهاز تمامًا والضوء الأحمر الصادرُ منهُ يُغطّي رأسهُ من الخلف. حينَها رمق ولدهُ نظرَةً يَغَلِّفُها الحَنَق وأشارَ إليهِ بإبهامِه قائِلًا: ” الأخيرُ أيُّها الفاشل! ما هذا العار الذي جَلَبْتَهُ عليَّ؟ ماذا أقولُ للناس؟ أنا لا أعلم لماذا لم تنبت فيكم خصلةً من خِصالي أيام الشَباب، وأخذتم كلَّ ما لدى أمِّكُم من عَتَهٍ ولا مُبالاة!”.

بحذرٍ سألَ الابن أباه مُحاوِلًا أن يرميَ الكُرةَ في ملعبِه ليقودَه في الحديث عن ذكرياتِه، فقال: ” وكم كان ترتيبُك في الصفِّ في مثل سنّي”. فأجابَ الوالد مُستشعرًا  في السَّؤالِ رائحَةَ الامتداح: “في مثل سنِّك؟ لك أن تتخيَّل كم كان ترتيبي في الصفِّ. إنَّه الأول”. ولم يكد يُنهي جَوابَهَ حتى شعرَ بصفعَةٍ مجهولةِ المصدر تَهوي على خَدِّهِ الأيسر  أفقدَتْهُ توازُنَهُ وهوتْ به أرضًا. أدركَ بعدَها أن مصدرَها ذِراعُ ذلك الجِهاز  المَقيت، وأن جميعَ من حوله انتابتهُم موجَةٌ من الضَّحك على ما قد حصل، واكتشافِ أن آفة الكذب لم تكن حكرًا على الابن فقط، وإنَّما لربِّ المنزل نَصيبٌ منها هو الآخر.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!