رائحة المطر… كتب: قصي المحمود بقلمه

 

من مجموعتي القصصية (تحت الطبع)بعنوان (المسلخ)
القصة الثانية

رائحة المطر

طرقٌ على الباب يبدد السكون، همست بصوت مرتجف: من؟؟ لم يجب أحد، فتحت الباب بحذر، نظرت… فإذا نسمة هواء باردة ورذاذ مطر خفيف يبلل وجنتيها، كان الشارع خالياً إلا من رجل على ناصيته، أسند ظهره لشجرة متيبسة، لم تتبين ملامحه. أغلقت الباب وراحت تقرأ في رواية غابرييل (مئة عام من العزلة).
لم تكد تكمل الصفحة الأولى حتى سمعت ذات الطرق، يا للرياح التي لا تهدأ! بدأ الجو يبرد قليلا ولا بد من إشعال المدفأة، تسرب الدفء إليها كما يتسرب الماء في الأخاديد المتيبسة، أرخت جسمها قليلا، جالت بنظرها في أرجاء الغرفة، كل شيء على حاله منذ خبر نعيه إثر سقوط طائرته في البحر، كانت تمني النفس بنظرة أخيرة على وجهه، لكنهم أخبروها أنهم فقدوا الأمل بالعثور على أي من الطيارين أو جثامينهم.لا تدري لماذا اليوم تعاودها الصورة وقد مضى أكثر من ثلاثين عاما على الحادثة، عاشت تجتر ذكرياتها معه، ابقت غرفة نومها على حالها، تنظفها كل يوم وترتب سرير نومها، كأنها على موعد المساء كعادتها حين يكون في إجازته.عاد الطرق من جديد… ولكن هذه المرة أكثر حدة، ربما الريح اشتدت… هكذا حدثت نفسها، ولكن الطرق أخذ في الازدياد، انتبهت مرتبكة فلا أحد يزورها منذ سفر أختها وبعد وفاة أمها، إلا عامل النظافة والبقال، لكن موعدهما لم يحن، وهي في زحمة أفكارها، ازداد الطرق، نهضت وفي داخلها شيء من الخوف، فالشمس توشك على الغروب، وفي مثل هذا الوقت تكون الشوارع خالية، جمعت قواها وحاولت أن تكون رابطة الجأش وفتحت الباب، كان يقف على عتبة الباب رجل قد بلله المطر رغم المعطف المطري الذي يرتديه، كانت عيناه تنظران إليها دون رفة جفن، يضع يديه في جيبه، من طول قامته عرفت أنه ذات الرجل الذي كان يقف على ناصية الشارع، وفي ذروة دهشتها التي جعلتها لا تقوي على الكلام سمعت صوتاً أجش متعب: سيدتي إني أرتجف من البرد… هلا سمحت لي ببعض الدفء، نظرت إليه وهي تدقق في قسمات وجهه، لم تكن غريبة هذه الملامح عن ما في مخيلتها، راحت وهي متسمرة في مكانها تبحث في ذاكرتها لكنها لم تفلح، ففي كل زاوية تجد ملامحه تتداخل بباقي ملامح من في الذاكرة، بدء الخوف يسري في أوصالها، شعر بما يجول بخاطرها فنزع المعطف المطري عنه وهو يقول.. سيدتي أعلم أنك خائفة؛ فأنا رجل غريب بالنسبة إليك ولكن كما ترين، هيئتي ليست كما راودتك نفسك، نظرت إليه، كان طويل القامة تدل هيئته على الوقار وملامح وجهه تدعو إلى الاطمئنان… إلا ذاك البريق في عينيه الذي يوحي بنظرة مجهولة.استدارت دون أن تكلمه وتركت الباب مفتوحا مما أوحى إليه بقبول استضافته، جلس قرب المدفأة وراح يفرك يديه ليدع الحرارة تسري في جسده المتعب، بينما راحت هي تهيء فنجانا من القهوة ليبدد شيئا من الارتباك والخوف لديها، ويجعلها أمامه متماسكة وهي تقوم بواجب الضيافة، وعندما عادت وجدته قد قد غرق في نوم عميق.نومه طمأنها فغطته بملاءة قريبة منها، وذهبت لتغفو قليلاً.استيقظت فزعة، لم تزل ممسكة بالرواية، رفعتها قليلا ونظرت لغلافها، عليه صورة غابرييل، سرت في جسدها رعشة غريبة.. يا إلهي هو ذات الرجل! أسرعت لمكانه فلم تجده، وفنجان القهوة على حاله، أسرعت للباب، وجدت مزلاجه على حاله، ذهبت إلى دولاب ملابسها، أخرجت معطفها المطري، ارتدته ووضعت الرواية في رف الكتب المقروءة، وخرجت ليبللها الرذاذ وتشم النسيم بنفس عميق معفرا برائحة المطر

عن أيمن قدره دانيال

كاتب - شاعر - اعلامي - عضو الاتحاد العام للاعلاميين العرب 2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!