رجل تحت (الخيش) يحترق/ بقلم :حجازي سليمان ( السودان – الخرطوم )

 

نهار رمضان في قريتي لا يشبه أي نهار في الدنيا، تتمدد أشعته بعيدًا بعيدًا، تنام الرمضاء ملء جفنيها بالقرب من المنازل وكأنها كلاب حراسة وأن هناك لصوص على وشك الإنقضاض على الفريسة، تتمشى الرمضاء في الشوارع مع الناس، لا يؤثر عليها صوت الأطفال، لا تزعجها روائح (الحلومر) المنتشرة، وكأنها على موعد مع الرمل وتريد عقابه، بأن تحيله إلى لهب متقد، وليس ما يشوى سوى نظرات قليلة تراقب الشمس، والكل يرى ما بعد الزوال، الشمس هي الأخرى تؤكد فرحها البهيج، وتمد أياديها ملوحة بالقرب من سقوف المنازل.
الرواكيب أكثر حنوًا من البيوت لأنها تتقاصر قامتها وتبعد مسافة تجعل الشعاع في موضع أبعد بقليل.
كل من يدخلها فهو آمن من فحيح النهار، آمن من أنين الرمضاء الصاخب، آمن من تلاويح الشمس وهي تجوب أرجاء الأفق.
الشمس لا تبارح مكانها وأنت تنظر إليها، كأن الأرض تتوقف عن الدوران، وهي لاتريد نهاية يوم وبداية جديدة للحياة.
عندما كنت طفلًا يلهو مع الأطفال، كنت لا استطع مقاومة النظر في رجل ينام تحت( تعريشة) وفوقه (شوال خيش) مبلل بالماء، لا يساورني الضحك فحسب بل الأسئلة أيضًا،
كان منظر لا يغيب عن عيني أبدًا ويزداد وضوحًا عندما يقترب شهر رمضان، لكن النساء لا تفعل مثل معظم الرجال لأنهن يحبن الصيام ولا بخفن من العطش، هكذا خبرتي جدتي ذات مرة.
وعندما تقدم بي العمر علمت أن بعض الناس يخشون من العطش وينامون مثل ذاك الرجل الذي لمحته وأنا طفلًا.
في ذاكرتي رجل يرتدى شوال خيش وتبلله المياه، كان ذلك قديمًا قبيل وصول الكهرباء ومكيفات الهواء والمراوح، ولكن في حالة إنقطاع التيار يعود ذاك الرجل إلى ذاكرتي ويدخل الراكوبة في خفاء، ثم يجهز (عنقريبه) القصير المسنوج بحبال السعف، لأن السعف أيضًا يعطي رطوبة عندما يبلل بالماء، ثم يأتي بشوال الخيش فيهيل عليه الماء، بعدها تطلع منه رائحة الرطوبة، ثم يتمدد ويتغطى بذاك الشوال، وينام قرير العين، ولكن أصوات الرمضاء المبحوحة من كثرة الهرج تجعله يتقلب في فراشه، ينام ويحلم بكل ما في خياله من أحلام، ثم يستيقظ فِرحًا، فيصدمه شعاع عائد توًا من خدر أمه، فيصرع من الألم ويعود إلى عنقريبه القصير وما زال النهار في حالة سجال طويل وصراع مع كونه لن يغيب وإن غابت شمس اليوم..

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!