رحيل المواسم/بقلم:بدر العرابي (اليمن)

 

كانت حين تأتي من المدينة إلى القرية، وأول ما ينغمس جسدها في عتبة القرية كأن القرية دخلت موسم الأمطار قبل حلول دورة الفصول ،ولكأن عربة الدفع الرباعي ( البيك آب) الزرقاء تحمل قمراً بداخلها تبل الطريق الترابية بضوئه حيثما تمر ..ومن بعيد وأنا أنظر إلى مفرق القرية ما قبل قريتنا ، أي القرية التي تقع غرب قريتنا والتي تمر بها ( البيك آب ) قبل الوصول إلى قريتنا كنت ألمح من سطح منزلنا الطيني وكأن الشمس قد ترنحت هناك وأجهضت غروبها ولكأنها تعود، ولكن إلى قريتنا فقط .
كنت طفلاً لم أكمل الثالثة عشرة
وحين كانت تقدم شاذية من المدينة في زيارة لأهلها الذين يقيمون في قريتنا _ كانت تسأل عني مباشرة ثم ترسل في طلبي
فأصل ،وحين تراني على عتبة منزل أهلها كانت تجهش باالفرحة ..تعانقني بجنون حتى أحس بحرارة دموعها وهي تتساقط على أكتافي، لكن رائحة جسدها كانت تحملني من طفولتي إلى خصم دائرة البلوغ والرشد .
كانت شاذية قد بلغت الثامنة عشرة ربيعاً وثمة خاتم في أنملها ،أي بمايشير أنها ( مخطوبة ) بينما كنتُ طفلاً بعيداً مهوى المحال ،في أن أدرك هذا القمر الذي يتحرك في الأرض ..كانت المسافة العمرية بيننا مثلما بين السماء والأرض ،فلا أنا أسطيع أدركها ولاهي تستطيع أن تظل تدور في فُلكي العُمري .
كنا حين تقوم شادية بترتيبنا بشكل دائرة في عرصة دار أهلها في القرية _ كنا نلهوا ببعض الصخب كأطفال ، لكن طفولتي كانت تغادرني بين الحين والآخر حين كانت تحرك ذراعيها ؛ تحملني لتغير مناخي ولكأن ومض بدأ يتغشى المكان
أشعر بفوح بلل المكان ولكأن عاصفة مطر ستحل الآن في غير موسمها .
تعلقتْ شادية بي تعلقاً لست أدري غرضه ، هل هو العشق؟ ..لا أعتقد ذلك فهي فتاة مخطوبة وقيل أنها على وشك الزفاف إلى عريسها أحمد بعد عودتها إلى المدينة هذه المرة .
ماهو مثير أن شادية هذه المرة أصرت على أن تصحبني معها إلى المدينة ، قالت لي في لحظة مجتونة بعد غروب شمس : ” ضروري أعود إلى المدينة هذه المرة وأنت معي ..فالمدارس لم تبدأ بعد ..على الأقل أسبوع أو أسبوعين تقضيها معنا في بيتنا في المدينة ”
قلتُ لها وغصة تتحرك في حنجرتي جيئة ورجعة :” تمام ..بس أريدك تذهبي لتترخصي وتستأذني من أخي الكبير “.
لم تتأخر شاذية في طلبي فصحبتني إلى منزلنا الذي يبعد مايقارب ٢٥٠ متراً من منزل أهلها في قريتنا ..كانت تضمني بنشوة في الطريق ونحن نمشي باتجاه منزلنا ..كنت أحس بجسدها يحتويني من كل جانب
وكانت رائحتها المضمخة بالبخور اللحجي والكاذي تتدفق لأنفاسي دون فلترة ؛ فحينها كنت طفلاً ودفق أنوثة بهذا الكم ربما سيطيح بي .
راوغ أخي الكبير شادية في تنفيذ طلبها ، لأنه أولاً وأخيراً وقع في أسر جمالها ؛ إذ لا تستطيع أن ترد بالنفي المباشر وترفض طلب قمر يتدلى ويخاطبك على مقربة منك رافعاً كفيه مترجياً منك تنفيذ طلبه ..قال لها :” خلاص تمام لكن أنا سوف أحضره بعد غد إلى منزلكم في المدينة ”
كنتُ أدرك مراوغة أخي جيداً وأنه يكذب يكذب ..وكنت لا أريد شاذية أن تستسلم ،فما بقي إلا القليل على إقناع أخي …لكنها فرحت لرد أخي ولكي تضمن ذلك ، ولو كي تقنع نفسها ، طلبتْ أن تحمل ملابسي معها ريثما يحضرني أخي إلى منزلهم في المدينة بعد يومين .
انطلت حيلة أخي على شاذية ولم تنطل عليا ..عادت بي شاذية إلى منزل أهلها وكنت أبكي بحرقة لأنها ستغادر غداً ..كنت في طريق عودتنا إلى منزل أهلها أعبُ من فوح رائحتها المختلط بدموعي وأدفقها لأنفاسي بجنون….
كانت شادية منتشية وتضمني مدلية رأسها وكتفها بالقرب من أنفاسي وأنا أشهق مزيداً من رائحتها إلى رئتي ؛ لأنني تيقنتُ إنه الفراق الطويل ، بينما هي تتأبط ثيابي من الجهة الأخرى وكأنها ضمنت قدومي إلى المدينة وإلى منزلها هناك لقضاء أسبوعين .
كانت تدنو مني فيصطدم نهدها الأيمن بكتفي فيهتز ويرتد كرجع وتر عود لحجي تمت دوزنته استعداداً لأداء أغنية لحجية شرحية اللحن وأنا أجهش بالبكاء الصامت وأشهج بكائي بشهقة مكتومة طويلة وما أن وصلنا منزل أهلها فتحضني حضناً أخيراً وتربت على ظهري :” خلاص أنا في الغد سأغادر القرية إلى المدينة وسيلحقني أخوك بك بعد يومين وسأنتظرك بشوق ولهفة ..”
انصرفتُ ..عدت لمنزلنا…. نمت وفي الصباح الباكر خرجت من منزلنا مستنداً على صخرة دائرية كبيرة على هامش طريق السيارات ؛ فإذا بال ( بيك آب الزرقاء ) قادمة فاختلطت رائحة احتراق الوقود برائحة شاذية واعتكرت السماء على الطريق وكأن وميضاً سياراً ،بل قمراً محمولاً على كابينة السيارة يمر على الطريق …
بكيت حينها حتى شعرت أن قلبي سيتدحرج بين دموعي وعدت منزلي محسوراً وكأن البيك آب قد سلخت أحشائي من داخلي حين مرت هذا الصباح وأودعتها حقيبة شاذية .

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!