زوجةُ تنّينٍ أخضر / بقلم : القاصة السورية روعة سنبل

أحبّني يوماً تنّين بثلاثة رؤوس، وثلاثة أزواج من العيون الحمراء.
لم أستطع أن أتجنّب إغراء الرقم “ثلاثة” المتجسّد في تكوينه، الرّقم الذي أؤمن بسحره المرتبط بالحكايات، حين عرض عليّ الزواج وافقت على الفور، كان صعباً أن أتجاهل دفء عيونه المشتعلة ببريق الياقوت، حجر حظّي كما تقول الأبراج، ولأنّني لسبب أجهله أحبّ المدخّنين، فقد فتنني حتّى بخر فمه العابق برائحة الدّخان!.

أقمنا وقتها في قلعته الدّاكنة العملاقة، المنتصبة فوق سحابة رماديّة كبيرة ثقيلة، عشنا لثلاث سنوات حياة مستقرّة، كان تنّيني يقوم بواجباته على أكمل وجه ليعتدل العالم، ينفث النّار من أفواهه فتتوهّج الشّمس، وينفخ الدّخان من مناخيره فيطير الغيم، وحين يرمقني بستّ عيونٍ ناريّة متوهّجة، ويهمس “أحبـّك” بثلاثة أصوات تتمازج معاً، تخرج الكلمة حارّة، فأتوهّج كشمس، وأطير كغيمة.
واظبتُ يومياًّ وبمحبّة على تنظيف حراشف جسده القاسية لتبقى برّاقة، وفرك زعانف ظهره بالزّيت لتظلّ فتيّة منتصبة، وتقليم مخالب يديه القصيرتين وقدميه، وطهو أطباقه المفضّلة، تحبّ التّنانين خاصة الخضراء منها “الملوخيّة” كثيراً.

ظلّ تنّيني لسنوات يقول كلّ ليلة قبل أن ينام لاهثاً برضى:
– “أنتِ هبةٌ من السّماء، ماذا يريد تنّينٌ برّيٌّ أكثر من امرأة عاشقة، تعرف جيّداً كيف تُضرم ناره؟”.
صباحاً، كنتُ أحضّر القهوة ونشربها بسعادة، ثمّ يمضي نحو الباب، أودّعه دون أن أمتعض ولا مرّة واحدة بسبب المشحات، الّتي يتركها ذيله الطّويل على الأرضيّات، قبل أن يغادر يبتسم لي بفم، ويقبّل بآخر شفتيّ قبلة دافئة، ويهمس بالثّالث في أذني “سأفتقدكِ”. أغلقُ الباب خلفه، وأجري مسرعةً نحو النّافذة، أراقبه وقد فرد جناحيه الخفّاشيّين وحلّق عالياً، أتابعهُ بنظراتي العاشقة حتّى يغيب في الأفق، وأردّد بعينَين دامعتَين، كأيّة زوجة وفيّة: ” حفظكَ الله لي”

ولأنّ الله لا يستجيب أحياناً لدعاء الزّوجات، يبدو هذا كلّه بعيداً الآن، بعيداً كحلم أبتلعه بحسرة، دون أن أجرؤ حتىّ على استعادة شيء من تفاصيله، خوفاً من بطش زوجي الجديد!
زوجي الآن رجلٌ تتنهّد النّساء حين يلمحْنه، وتلتمع عيونهنّ، شهم، شجاع، بعضلاتٍ مشدودة، وشاربَين مفتولَين، أنظّفُ يوميّـاً بشرودٍ درعَه الّذي يرتديه، وألمّع ترسه الّذي يحمله.
أحضّر قهوة الصّباح، وأراقبه بنفور صامت بينما يمسح آثار الدّم اليابسة على سيفه، ثمّ يجلخ نصله، قبل أن يغادر يطبع على جبيني قبلة خاطفة ويمتطي ظهر حصانه.

أستمع قبل النوم باهتمام مفتَعل لبطولاته، وأغمض عينيّ باستسلام حين يجذبني نحوه، يقول زوجي كلّ ليلة قبل أن ينام مبتسماً بفخر:
– “لقد أحسنتُ الاختيار، ماذا يريد رجلٌ نبيل غيرَ امرأة عاقلة تعرف جيّداً كيف تطفئ ناره؟”.
أطهو لزوجي أطباقه المفضّلة، يحبّ الفرسان “الملوخيّة” كثيراً، يفضّلونها مالحة كالدّمع، خاصّة أولئك الذين يبرعون بقتل التّنانين الخضراء، يطعنونها في قلبها، يشقّون صدرها، ويجتثّون القلب النّازف، وكما جرت العادة، يطلبون من أوّل امرأة وحيدة حزينة يصادفونها تقطيعه، وطهيه مع الثوم وأوراق “الكزبرة” الطازجة، ثمّ يتّخذونها زوجة!

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!