سِتِّي “المَضمُوظِيل” نَفِيسَة بقلم. نجم الدين سمّان

لآفاق حرة

سِتِّي “المَضمُوظِيل” نَفِيسَة
بقلم. نجم الدين سمّان

ما أن استقرَّ جدّي نجيب أفندي في إدلب؛ قادماً من حلب؛ وأسّسَ فيها أولَ محلٍ لبَيعِ وتصليحِ الساعات؛ حتى صار اسمُه لدى الأدالبة: الحاج نجيب الساعاتي؛ ثمّ اكترَى -استأجر- داراً عربية صغيرة أقربَ إلى دُكّانه؛ فَرَشَهَا بما تيسَّر؛ بينما أخذ المُفتي يبحث له عن ابنةِ الحلال:
– هات البشارة؛ ستصير صِهرَ البلد.
اشترط نجيب أفندي أن يراها.. أولاً؛ فلمّا ذهبوا في وفدِ وَجَاهَةٍ.. لخُطبَتِها؛ حَمَلَ جدّي ساعةً معه كهديةٍ لبيتِ من سيصيرُ صِهرَهُم.
حكت لي جدّتي كيف تمَّت خُطبَتُها؛ وكيف دخلت.. تتعثرُ بثوبها لتقفَ قرب الباب وعيناها تنظران إلى قدميها ارتباكاً؛ وكيف رآها جَدِّي أشبَهَ بفتاةٍ أولَ بلوغها؛ وكيف نظر إليها؛ فلم تجرؤ على رؤية ملامحه.. حتى بنظرةٍ خاطفة.
قالت: – سَمِعتُ صوتَه فقط؛ حين قال:
– جايب معي ساعة سويسرية فاخرة؛ هديّة مَحبِّة واحترام.
؛فلمحتُ كيف أخرجَ ساعته الفضية من جيب صُدريّته؛ ثمّ أخذَ يضبط الساعة الكبيرة التي جلبها كهدية؛ لمَحَت شَارِبَه فقط.. حينَ فاجأها بسؤال:
– أديش الساعة يا مدموزيل نفيسة؟.
فصُعِقَت جدّتي.. من سؤاله؛ علّق المفتي:
– ما اتفقنا يا نجيب أفندي نصعِّب السؤال.
فتجاوزه جَدّي مُحَرِّكاً عقاربَ الساعة الكبيرة.. أمامَها:
– هيك الساعة 12 ساعة الزوال؛ وهيك.. بتصير الساعة وحدة…
حتى مرَّ عقربُ الساعات على كلّ علامات الوقت في مينائها؛ فسألها.. من جديد: – شو رقم الساعة هَلّأ.. يا مَدمُوزيل ؟.
رَدَّت نفيسة مُتلَعثِمةً: – يمكِن.. الساعة 12.
فابتسم كلُّ مَن في المكان.. لِفِطنَتِهَا؛ لكنها.. أردفَت:
– في عندي أنا.. سؤال.
شجَّعها المُفتِي: – اسألي يا نفيسة ولا تخجلي.. نحنُ أهلُكِ.
– أشُو هَاي كلمة مضموظيل؛ إذا كانت مَسخَرَة.. فما إلو عَنَّا نصيب.
ابتسمَ نجيب أفندي لها.. بينما أجابَ المُفتي عنه:
– حضرته عَاشَرَ خواجات بيروت.. فصار يحكي مثلَهُم؛ وكلمة مدموزيل تعني بالفرنسيّة: الآنسه العزباء؛ أمّا المُتزوِّجَة.. فينادونها: مَدَام.
– أنا اسمي نفيسة.. وبس.
قالتها.. وهي خارجةُ من الغرفة كلَمعَة البَرق. فحَسَمَ نجيب أفندي أمرَهُ:
– نقرأ الفاتحة على نِيَّة التوفيق.
حَكَت جَدَّتِي نَفُّوس لي:
– لم أعرِف كيف صرتُ خارجَ الغرفة؛ أركضُ نحو أمِّي.. والدموع تنهمرُ من عينيّ؛ من السعادة أو مِن الصَدمَة.. لا أدري.
ثمّ رَوَت لي.. كيف صارت ساعةُ نجيب أفندي مزاراً لكلِّ الجيران؛ وكيف كانت تتصدَّرُ جلسةَ النسوان وهي تشيرُ إلى ميناءِ الساعة مُتفاخِرَةً: – لمّا يصير العقرب الصغير هون.. تصير الساعة 12؛ وهيك.. الساعة 1.. الخ.
حتى صارت قِصَّةُ خُطبَتِهَا على كلِّ لسان؛ وحَسَدَتها بناتُ الحارة على هذا الأفندي؛ وعلى هداياه لها كلما ذَهَبَ إلى حلب.
علّقت زوجة الكاتب بالعَدل.. المشهور ببخله:
– ما خلَّا شي بسوق النسوان في حلب.. إلّا جَبلِك ياه.. تِتهَنِّي.
فلمّا صارَ عُرسُهَا؛ وصعدَت معه إلى “المربَّع الفوقاني” العِلِيَّة؛ حيثُ غرفة نومِهِما؛ كَشَفَ طَرحَتَها عن وجهها؛ أمسكَها من كتفيها؛ فأحسّ بارتجافها؛ قال:
– اقعدي يا نفيسة خانم.. ارتاحي.
ثمّ خطفَ آلة العود.. وهو يبتسمُ لها:
– خلصِت سَهرة المَعَازِيم.. و بِديت سهرتنا.
ابتسمت لهُ.. فسألها: – تعرفي تغنِّي؟.
فهزّت رأسَها بالنفي؛ لكنه لم ييأس: – رُدِّي وَرَايِيِ.. يا نفّوس.
ثمّ رفع صوته لتسمعه حَمَاتُه التي رافقت ابنتها:
– وخلّي إمّك تروح عند جُوزها.. وتاخد معها عمتِك كمان؛ وَصلِة طربنا.. لطلوع الضَوّ.
دَوزَنَ عُودَهُ.. غَامِزاً بعينيه:
– يلبَق لك مقام النهاوند.. يا حلوة.
قالت لي جَدّتي:
– حاولت أغنّي.. وكتلةُ شوك تقف في حلقي وتسدُّ كلّ أوتار صوتي.. من الخجَل؛ ارتعدً جسدي.. يا وِيلِي.. بعد شوَيّ رَح يقول: – قومي.. ارقصي.. يا مضموظيل.
أضافت.. وهي تبتسم:
– بَقِيَ جَدُّكَ.. يعزف لي.. حتى مطلعِ الفجر!.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!