شاهِد/ بقلم : صوفيا الهدار ( اليمن )

 

بعد جولة من التسكع في الأروقة والعنابر، قررت العودة إلى العنبر رقم (٣) حيث يطيب لي المكوث هناك، فقد تعود المرضى ومرافقيهم على وجودي. صحيح أن المطاردات التي أقوم بها مع صراصير العنبر وفئرانه تسبب لهم الكثير من التوتر  والإنزعاج، تحديداً المرافقين الذين يفترشون أرض العنبر. أما المرضى الذين يشغلون الأسرة فلا حول لهم ولا قوة، لذا أحرص دوما ألا أقفز عليها حتى لا أفزعهم، خاصة بعد تلك الحادثة التي حاولت فيها ملاحقة ذلك الفأر الذي يسكن جهاز التكييف المعطل منذ سنوات، استفزتني حركاته، فقفزت نحوه، ووقعت على بطن امرأة كانت قد خرجت من غرفة العمليات منذ يوم واحد فقط. بسبب الهلع الذي أصابها عانت من مضاعفات جانبية شديدة نتيجة الحركة اللاإرادية التي قامت بها بسببي.
ينهرني المرافقون والممرضون وعمال النظافة أحيانا، وقد يطردونني خارج العنبر في أحيان أخرى، ولكنني أعود دائما، وهكذا أصبح وجودي وغيري من القطط أمرا طبيعيا.
إننا نتعايش بسلام هنا، نحن معشر القطط والصراصير والفئران والمرضى والمرافقين، وطاقم المستشفى بأكمله، فالمناوشات التي تحدث بيننا أحيانا، هي مجرد خلافات بسيطة سرعان ما  تذهب  أدراج الرياح.
لم أتناول ما يكفي من طعام هذه الليلة لذا أنا أعاني من الأرق،  فرغم أن الليل لم ينتصف بعد، إلا أن الجميع كان يغط في نوم عميق. السكون يلف العنبر رقم ثلاثة، فقط يقطعه صوت أنين من العنبر المجاور، لابد أن أحد المرضى عاودته نوبات الألم.
رغم الظلام رأيت ذلك الطيف الذي يزور المرضى عادة قبل مغادرتهم المستشفى، كان واقفا بجانب سرير العجوز ذات الشعر الأحمر، أدركت ما سيحدث، لم أستطع البقاء، غادرت العنبر باحثة عن مكان أقضي فيه ليلتي. توجهت إلى غرفة الممرضات، أزعجتني رائحة مزيج البترول والقطر النفاذة التي كانت تملأ الغرفة، فقد كانت إحدى للممرضات ترسم بالحناء على ظهر كف زميلتها.
غادرت الغرفة مسرعة وبحثت عن مكان آخر، غير بعيد.
عندما انتصف الليل سمعت صرخة مصدرها العنبر رقم (٣)، ثم تلتها جلبة هناك، أدركت أنهم اكتشفوا أمر تلك العجوز.
في عصر اليوم التالي كان السرير الشاغر في عنبر (٣) قدأصبح محجوزا، كان شاغله هذه المرة طفلة في السادسة تقريبا، كانت نحيلة، بعينين واسعتين، وظلة شعر مجعد تحيط وجهها الجميل.
ما إن رأتني حتى انتابتها نوبة هلع وراحت تصرخ بهستيريا، لابد أنها تعاني من فوبيا القطط، شعرت حينها، بالغضب، وخرجتُ من العنبر متهكمة بمواء لم تفهمه: وماذا عن الصراصير والفئران، هل ستعقدين معهم صلحا، أم أنكم ستوقعون معاهدة تضمن حسن الجوار؟!
حفاظا على كرامتي المهدورة، تجنبت دخول عنبر رقم (٣) لمدة أسبوع، ورحت أتسكع بين باقي العنابر.
كان صباحا مملا رغبت فيه الحصول على بعض الإثارة، اقتربت من باب عنبر (٣)، أطللت برأسي، وعيناي مصوبتان نحو سرير تلك الصغيرة، فاجأني ما رأيته، كانت مستلقية على الفراش، وقد تضاعف حجمها، بدت متورمة، هادئة جدا، ترمقني بسكون ضعيف بعينيها الواسعتين، اللتين عجزتا  حتى عن الاعتراض على وجودي.    لاحظت علامات التوتر على وجه الطبيب الشاب طويل القامة المشرف على حالتها .
غادرت العنبر هذه المرة  احتراما لمشاعر هذه الطفلة، ولكنني لم أستطع الابتعاد كثيرا عن العنبر، فبقيت قريبا منه.
في ذلك اليوم نقلت الطفلة إلى غرفة العناية المشددة، شعرت بالحزن الشديد لما آل إليه وضعها الصحي، وتساءلت في نفسي: ألم تكن بحال أفضل عندما رأيتها أول مرة؟!
أمام غرفة العناية المركزة وقفتُ أراقب حركة الممرضات والطبيب الطويل .
لا أدر لم تبعته نحو مكتب القسم حيث تم استدعاءه، اختبأت تحت الطاولة، كان الحديث همسا بين الطبيب ورئيسه، ولكنه كان يحمل نبرة توبيخ، أما الطبيب الشاب طويل القامة فقد اكتفى بالاعتذارات وتبرير  الخطأ.
غادرت حجرة المكتب غير مدركة تماما لفحوى الحديث، وعدت من جديد لأقف بقرب غرفة العناية المركزة.
في تلك الليلة انتابني شعور بالقلق، ورافقني هاجس مخيف، وصدق ما أحسست به، عندما رأيت ذلك الطيف يقترب من باب غرفة العناية، ارتعبت عندما مر جانبي، هرولت نحو غرفة الممرضات.
عندما دخلت الغرفة كانت إحدى الممرضات نائمة، والثانية على المكتب تقلب شاشة هاتفها المحمول، كانت الشاشة تضيء بالقبلات والقلوب الحمراء، ووجه الممرضة يضيء بالابتسام والفرح.
قفزت على الطاولة، انتفضتْ، أوقعت هاتفها، لحسن حظها أنه لم ينكسر، لعنتني، وحاولت اللحاق بي حتى تشفي غليلها. ركضت نحو الرواق باتجاه غرفة العناية.
هناك وقفتْ ونظرت نحو ساعتها، ربما تذكرت أن عليها القيام بعمل ما, دخلتْ غرفة العناية، حاولتُ التلصص من الباب، لكنها سرعان ما خرجت شاحبة، وأخذت تتصل بشخص ما.
انتشر خبر وفاة الطفلة سريعا بين نزلاء العنبر رقم ثلاثة (٣)، فخيم حزن عميق على الوجوه، واختنقت عبرات هنا، وسمعت حشرجات هناك.
مر أسبوعان على تلك الليلة، عدت من جديد إلى مشاكساتي مع فئران عنبر (٣). كان هناك فأر صغير، سريع الحركة، أرهقتتي ملاحقته. حاول الإفلات مني بالهروب من باب العنبر، ركضت خلفه، ولكنني اصطدمت بقدميّ ذلك الطبيب  طويل القامة…

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!