ضربة حظ/ بقلم: نور الدين بنبلا

لم تتحمل ليلى المكوث في فصل دراسي اعتادت الرسوب فيه، فتسرب الملل إلى نفسها التواقة إلى الخروج من مستنقع أسرتها الاجتماعي الفقير. كانت طموحة بشكل أرادت أن ترتقي إلى مستوى يمكنها من البروز كامرأة ذات شأن بين قريناتها اللواتي سبقنها ونجحن في مسيرتهن الدراسية والاجتماعية، وتمنت أن تنفلت من ربقة القيد الذي يكبل حظها ويقف سدا منيعا أمام حلمها..لكن جمال خلقتها المتوسط لم يؤهلها إلى إيجاد فارس أحلام قادر على منحها رخصة لتغير مسار حياتها، فقُدِّر عليها البقاء تحت كنف أبيها  المعروف ببخله وتقصيره في الإنفاق على الأسرة. ورغم ذلك أظهرت هذه الشابة رغبة جامحة في شق طريق جديد يوصلها إلى مبتغاها المنشود. فدقت جميع الأبواب من أجل العمل حتى خُيِّل إليها أن الأرض تلفظها من كل مكان وطئته إلى أن استقر بها المطاف كمستخدمة في صيدلية لبيع الأدوية..

وبالتأكيد أصرت على تحدي كل المعيقات التي  تمنعها من تحقيق ما تصبو إليه حسب معتقدها، واتخذت شعارها للتحدي وتحطيم الصعاب المثل المغربي القائل:” إذا لم تأتي بالقلم..ستأتي بالقدم”.لكن الدنيا هنا أدارت لها الظهر ولم تنظر لا لقلمها ولا لقدمها ، فأضافت ليلى لشعارها:”..أو ستأتي بظهور صاحب النعم “.

وبحكم التقادم في تجارة الأدوية أصبحت بارعة في ترتيب الدواء وقراءة الروشتات وأخذ قياسات ضغط الدم والحرارة بل تعدت ذلك إلى الحقن بالإبر عبر الأوردة وكذا عبر العضلات، فاكتسبت خبرة أهلتها لممارسة التمريض المنزلي وتوفير خدمات الرعاية الصحية المنزلية المؤقتة التي برعت فيها إلى درجة كثر الطلب عليها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

ذات صباح مشرق رن هاتف الصيدلية، تناولت السماعة :

– الو صيدلية الرحمة، صباح الخير، من معي..

– أنا تامر الورزازي، أب لطفلة تعاني من مرض تحتاج معه إلى عناية طبية مستمرة..

–  في خدمتك سيدي

– سأرسل لكِ آنستي رسالة نصية بها عنوان إقامتي.

–  حسنا، إلى اللقاء سيد تامر

توجهت إلى العنوان المقصود تستقصي أخبار المريضة وتحدد تعاقد الخدمة مع الزبون.

ضغطت زر جرس البيت، هنيهة و فتح الباب، لتظهر أمامها امرأة نظرة الوجه، باسمة الثغر، منسدلة الشعر، وكأنها حورية بحرية مستلقية على صخرة كما تتصورها كتب القصص والخيال..

– هل هذا بيت السيد تامر؟

– نعم سيدتي

– أنا الممرضة

– اسمحي لي، لم أتعرف عليك،أنا زوجته ، تفضلي بالدخول.

– لابأس

دخلت ليلى، وجلست تنتظر في بهو المنزل لتتفاجئ بفضاء محكم التنظيم، رائع التأثيث، وكأنه متحف للتراث المحلي، تنطق عبره تقاليد وطرق عيش ساكنة المدينة التي يتواجد بها بيت السيد تامر. بل أن كل قطعة من الأثاث تعتبر دعوة لاكتشاف تاريخ وتراث الإنسان المغربي-الأمازيغي القديم. توقف الزمان،و خيم السكون على المكان، وصعدت أحلامها الدفينة في عمق التمني لديها، وكأنها بلقيس التي عجزت عن المقاومة واستسلمت للمساومة، لتجد قلبها تشقق وتطايرت أشلاءه في السماء  وتناثرت عبر تشعبات حياتها المهزوزة و الغارقة في واد من النسيان .

بقيت متسمرة قابعة في مكانها حتى سمعت صوتا استلها من غور تفكيرها اللامنتهي.

– أهلا آنستي وشكرا لك على المجئ.

– مرحبا سيد تامر،  جئت حسب رغبتك في توقيع عقد، لتأدية خدمة هي من اختصاصي…

– أعرف، سُمعتك سبقتك آنسة ليلى”.

– لنتحدث في الشغل وقبل التعاقد، علي معرفة بعض المعلومات عن ابنتك…

-حسنا تفضلي: ابنتي”هدى” ذات العشرة سنوات، تعاني من إعاقة تستدعي متابعة وعناية تامة لا يمكن أن تقوم بها إلا مساعدة جيدة مثلك آنستي، وهذا هو ملفها الطبي الكامل يتضمن كل حيثيات هذه الحالة المرضية، وأرجوك سيدتي، أن توليه عناية تليق به، لأنها طفلتي الوحيدة…

– حسن سأتفحصه جيدا  ثم أوافيك ببرنامج العمل إن شاء الله…

وضعت الملف في حقيبتها،  وودعت السيد تامر وهي مبتسمة. ثم خرجت راضية عن هذه الصفقة..

خطت ليلى عدة خطوات بعد خروجها من بيت الزبون الجديد لترتمي في أحضان  بحر من التفكير وتجرها أمواج التأمل في معنى وجودها كمخلوق غير محظوظ في زمن مزعوم بالحرية والتحرر.. زمن ترك في صدرها جرحا عميقا صامتا ينزف باستمرار..زمن النهضة النسائية حيث أُخرجت المرأة من خدرها، ورُفعت الكلفة عنها، وانتَزعت فيه شرف الانخراط في العمل السياسي والبناء الديمقراطي.. ظلت حيرة ليلى لا تبرح عقلها في كون التحرر والحرية لا تعدو كونها كلمات مسمومة رُوِّج لها وكذبة صدقتها المرأة ونكصت من قيمتها بعدما كانت الحياة تحمل متعة الرؤية إليها كحجر نفيس مطلوب و ناذر الوجود يتزاحم عليه الرجال..

كانت تحتقر كل خطوة تخطوها إلى بيت أبيها الحاج جميل، الذي لا يحمل من الاسم إلا الصفة، فهي تتذكر دائما كل مشداته و مراشقاته  بكلمات مهينة في حقها وحق أمها.. دب الجفاء إلى قلبها وتحولت صورة الأب لديها إلى وحش ضار يلتهم كل فكرة متحررة.. ويطفئ كل شعلة إحساس تشد لبنة الحب التي تصل الأب بأبنائه وخاصة ببناته وزوجته.. كان إحساسها منذ الصبا أن هناك سرا مخفيا كجبل ثلج لا يظهر منه سوى هذا الغليان الذي ينفثه أبوها الحاج جميل من عنق البركان الذي استتب على صدره.. كل لحظة من لحظات تواجدها بالبيت يكتنفها إحساس وكأنها سجينة لا حق لها في التعبير ولا حق لها في الاختلاف مع الآخر ، فلا سلطة فوق سلطة الحاج جميل…

ولجت غرفتها واسترخت على سريرها تهدئ من انتفاضة جسدها المنهك من شدة التعب، تمنحه فرصة لمغازلة النوم الذي عاكس رغبتها، فظلت عيناها تحدقان من زجاج  النافذة  إلى السماء في ليلة مقمرة  ترقبان  الغيوم البيضاء  وهي تشكل لوحات فنية مختلفة .. حاولت جاهدة أن تتحرك من مكانها، لكن رسما التصق بحدقتيها فارتدت إليها صورة السيد تامر وهو يخاطبها بكلمات رقيقة غازلت روحها، ويحييها بابتسامة عمقت الجرح العاطفي في فؤادها…

تحرت الصبح بكل لهفة، جلست أمام مرآتها، تتأمل قوامها ثم دارت حول نفسها وكأنها راقصة باليه تعبر بحركاتها عن بزوغ شمس الأمل.. جلست إلى منضدتها وتناولت علبة الماكياج لتظفر برسمة تلائم ملامحها وتحولها إلى محبوبة الجماهير تروي عطشى الحب…

في طريقها إلى الصيدلية،  وكعادتها، كانت تمشي مزهوة بنفسها، وتتبختر في مشيتها مرتدية سروال جينز يفضح خفايا جسمها، منتعلة كعبا عاليا يجعل هذا الجسم يفقد التوازن وتتراقص أنصافه معلنة حربا باردة على أصحاب النظرات الخاطفة،  وعشاق الكهوف المنحوتة التي تبهر ضعاف النفوس بجمال صواعدها ونوازلها..

قبل وصولها إلى مقر العمل، تحسست حقيبة يدها التي حركها هزاز هاتفها الخلوي، تفحصته وابتسمت ثم ردت قائلة:

– الو، سيد تامر لقد بكرت في مهاتفتك! أتظنني قد نسيت..؟ البرنامج معي لكنه يتطلب جلسة لشرحه.

– صباح الخير، بالمناسبة أنا في طريقي إلى العمل.وسأمر عليك لتدارس الأمر..

– حسنا، أنا في انتظارك..

بقيت هناك لا تكترث لموعد دخولها إلى العمل.. تنهدت تنهيدة مسموعة حولت لحظة انتظارها إلى لحظة تثاقل معها الزمن، وأبطأت تكتكة عقارب ساعتها فسبقت نبض قلبها الذي خفق  خفقة موجعة  كاد معها أن يتوقف.. ثم أخرجت من حقيبتها مرآة صغيرة لتطمئن على حمرة خدودها دون أن تعرف سببا يدعوها إلى ذلك..

وفي خضم الضجة التي تشمل الشارع، ترامت أقدام تامر إلى خارج سيارته وهو يترنح بشياكته وأناقته ورائحة العطر تفوح من بدلته ذات اللون الأزرق الملكي..

تُبودلت النظرات.. أقبل يبتسم، و بنبرة يكسوها الابتهاج قال:

–    تأخرتْ ؟

  • ابتسمت ابتسامة جميلة وأجابت قائلة:
  • بل أن حماستك أتت بك على وجه السرعة لتصنع شيئا جميلا لابنتك الوحيدة التي يبدو أن حبها زاد عن حب أمها.
  • تفضلي.. المكان غير مناسب لمناقشة هذا الأمر. فأنا أدعوك لارتشاف فنجان قهوة في مكان هادئ إن سمحت..

التفتت وراءها تستقصي النظرات التي تسجل أي مقطع مثير أو تخط أي عنوان ملفت على صفحات التواصل الاجتماعي التي تنعق بكل أنواع الفضائح.. لكنها لم تهتم، بل خطت أولى خطواتها نحو التغيير المنشود .. وضعت قدمها داخل السيارة وهي تساءل نفسها: قبل أن أشرح له مخطط العمل هل ينجح مخططي؟

تحركت السيارة نحو أفق مجهول لاتدري ليلى بدايته ولا نهايته. وتحركت هواجسها، وتساءلت عن  الجلسة القادمة، واندفاع تامر بهذه السرعة للقاءها. هل بالفعل يريد مناقشة البرنامج الطبي لعلاج ابنته بجدية؟ أم خالجه هم أراد الإفصاح عنه لغريبة رأى فيها كاتمة أسرار؟

جلسة في مقهى خارج المدينة تطل على منظر بانورامي تؤتثه بساتين أشجار الزيتون المترامية أسفل أقدام جبال الأطلس, منظر بديع ينعش الروح ويفك عقدة اللسان للكلام.

  • منظر خلاب أليس كذلك؟
  • لا أراه كذلك إلا من خلال إجابتك عن سؤالي. لماذا اخترت مناقشتي في موضوع يخص مرض ابنتك بهذا المكان؟ هل هناك ما يدعو إلى ذلك سيد تامر؟

أسئلة أخذت تامر إلى عوالم اختلطت فيها ذكرى زواجه بالمرأة التي كانت عشقه الأول ، كانت جميلة و رقيقة ، في لحظة خطوبته لها أحس بموجة عاطفية تكتسح حياته،

قاطعه النادل: سيدي ماذا تطلب؟

  • عصير برتقال من فضلك.

لماذا لا نرفع التكليف بيننا? ناديني تامر بدون سيد. (لابوح لك بشيء.)

أتعلمين أن نفسي تاقت إلى التحليق بحرية وأن اللحظة هذه جرَّت خيوط الماضي وأيقضت فيَّ عشق الأيام لترميني في حضن لعله يمسح دموع المقل التي يئست من انتظار لحظات شاعرية يثمل فيها الفؤاد وينتشي. .

وضعت يدها على كأس العصير أمامها. وبدأت تداعبه بأناملها، وتتلمس جزأه الأعلى بطرف سبابتها وكأنها ترسم حروف رسالة لم تتضح بعد معالمها، ولم تظهر مقاصد معانيها، بل بدت أنوثتها تسيطر على المكان بإظهار ابتسامة تحمل علامات استفهام كبيرة. فساد الصمت وبدأت لغة العيون ترسل خيوطها لتنسج شبكة الود بينهما. في هذه اللحظة شعرت ليلى بأن النحس الذي كان يلاصقها قد حل وانفك وأن باب السعادة المنشودة قد فتح. .وأنها حتما فازت و تفوز هذه المرة في لعبة حظها..

  • تامر بدون سيد كلمة خفيفة على اللسان لكن من وجهة نظري توحي بأن هناك فك لارتباط قد يحررك من وزر أثقلك.
  • لا عليك. قالها وهو ينظر إلى ساعته, لقد كنت صائبة في تخمينك, لكن الآن حان وقت الذهاب إلى العمل.

يتبع….. ان شاء الله

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!