على ضفاف الحلم. بقلم. جهان عروف. المغرب

لصحيفة آفاق حرة

 

 

 

 

 على ضفاف الحلم

بقلم. جهان عروف. المغرب

 

بعد بزوغ الفجر رن هاتفي النقال كعادته، لكني لم أستيقظ. كيف لي ذلك؟! وأنا التي قضت ليلة سوداء بجانب كلاب ضالة، في إحدى الأزقة الضيقة، الخالية، والمظلمة، كنت أبحث عن ذاتي المفقودة، بين الشوارع الملتوية للمدينة القديمة، المعروفة بحي الملاح، حي يعرف الداخل إليه أنه مفقود لا محالة، حي أصبح مهجورا بهجرة اليهود منه، لكن رغم معرفتي بهذه الحيثيات رفضت الخضوع لأفكاري، فتجاسرت عليها، في سبيل العثور على توأمي الروحي والجسدي، الذي فك تداخلنا الإلهي بعملية جراحية للفؤاد، تلاصق كان له تأثيره على حياتنا معا.

تأثير جعلني أبحث عن أخي الصغير عني بستين ثانية، وأكبره أنا بستين حِكمة، جملة كانت ترددها والدتي على مسمعنا دائما، كأن لسانَ حالها يقول” اللي فاتك بليلة فاتك بحيلة” مثل مغربي ألبسته والدتي حُلة من طينة أخرى، وبطريقة لا مباشرة، حاولت أن تغرس قيمة المسؤولية في توأميها معا.

مزية دفعتني للبحث عن أخي” بدر” الذي لا أعرف له طريقا، فقد كنا معا في انتظار القطار في المحطة الطرقية، لكي ينقلنا إلى “مدينة العرفان” لنجتاز امتحان ” تكوين الأطر” الذي حضرنا له معا، في السر والعلانية، في الليل والنهار، فوق الأسطح وبين أشجار الغابات….

مباراة كان لها وزنها بالنسبة لنا، كيف لا؟! ونحن الذين انتظرناها لسنة دراسية كاملة، حفظنا عن ظهر قلب كل حرف دُوّن على الكتب التي قرأناها، على شاشة الحاسوب أو التي اقتنيناها من المكتبة المجاورة لمنزلنا، حلم كان وبقي…  بسبب اختفاء توأمي، الذي جعلني أنسى كل ما خططنا له من قبل، ونترك القافلة تتوقف وتتأجل ….

وبينما  أحاول الاستيقاظ وأقاوم جسمي كمحاربة عائدة من ساحة القتال، استرجعت شريط بحثي المطول عن أخي” بدر” فقد تم اختطافه من عصابة تتاجر في الأعضاء البشرية، لا تعرف معنى الرحمة، أو العطف، تعرف طريقا واحدا أوحدا هو الوصول إلى أعضائهم وبناء جسر السعادة على تعاسة أهلهم، كان يوما صعبا للغاية علينا معا، أتذكر كل مشهد، كأن بثَه يُعاد مرة أخرى، فقد كنت وأخي ننتظر في محطة القطار، وكانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحا، حيث ارتأينا أن نسافر باكرا لنصل وبزوغ الفجر إلى العاصمة، ونحتسي كوبين من القهوة مع الكعك الذي حضرته لنا أمي الحنون، وسقته “بكريمة” من الحب والدعاء، بأن يوفقنا المولى ويحمينا من كل سوء، كأنها كانت تشعر بكلمات دعائها لنا.

وفي لحظة الانتظار الطويل، استأذنت أخي بأن يحتفظ بحقيبتي بجواره وذهبت إلى الحمام، الذي كان متسخا للغاية ومقززا، ولكن، لحاجتي الشديدة له، حاولت أن أُقنع نفسي بالولوج إليه… وعند عودتي لاحظت أن أخي غير موجود في المكان، على عكس الحقائب الصغيرة التي بقيت في مكانها.

قالت عجوز بصوتها المبحوح: “إن أخاك ذهب ليساعد بعض الغرباء على حمل حقائبهم”.

ابتسمتُ في وجهها ابتسامة خجولة، وعينيَّ تحذقان باحثة عن توأمي في كل مكان.

جلست نصف جلسة وأنا أنتظر… أنتظر فطال انتظاري، ومل المُنتظر، فتذكرت بسرعة البرق مقطعا من قصيدة محمود درويش ” في الانتظار”

في الانتظار، يُصيبني هوس برصد

الاحتمالات الكثيرة، ربما نسيت ….

سطرا شعريا كان كافيا بأن يجعلني أستيقظ من تلك الغفوة، وأن يصفعني لألملم أشيائي وأنطلق مسرعة للبحث عن ” بدر”…..

خرجت مهرولة وسألت الكثير من الأشخاص، لكن لا أحد منهم قدم لي أي معلومة، فأيقنت بأن الوسيلة الفعالة هي الصور التي على هاتفي لنصفي الضائع، فباشرت بعرضها على مجموعة من الناس إلى أن وصلت إلى طفل جالس القرفصاءَ خيل إليَّ في الوهلة الأولى أنه مُختل لا يفقهُ شيئا فيما سأقوله فتحاشيته، ولكن بعد سؤال وسؤال للمارة وللعابرين، وللجالسين، سمعت قلبي وعقلي يقولان لي اذهبي نحوه، اسأليه، اعرضي عليه الصور…. وبدون سابق إنظار؛ وجدت نفسي بمحاذاته. قلت له بعينين دامعتين، وجسد يرتعش خوفا، وحسرة وقشعريرة: “أبحث عن أخي، كان يرتدي معطفا أسودا، وسروالا…” وأَكمل هو: “دجينا أزرقا، وحذاء أسود، وله شعر أسود، ووجه مثل وجهك يشبهك تماما”.

ـــــــ قلت: متمتمة نعم هو، هو، توأمي أين هو …..؟

ـــ قال: وهو يتفوه بكلمات متقطعة:

ــــ أ ………….. خدو………….ـــــــــــــــــــه

ــــــ قلت من؟

ـــــ وأين

ــــ وكيف؟

ــــــــــ ومع من؟

ـــــــ تمتم ببضع كلمات وقال:

ــــــــــ مروا من هناك

ــــــــــــــ من هم؟ أرجوك

ــــــ وبأي وسيلة؟

ـــــــــ بسيارة سوداء عالية

ـــــــــ كم كانوا؟ أرجوك

ـــــــ لا أعرف

ـــ أرجوك حاول أن تتذكر …

ـــــ لا أعرف، لا أعرف، دعيني وشأني

فبدأ يصرخ بطريقة هستيرية ويقول: لا أعرف، لا أعرف،  يكفي يكفي  يكفي …..

اقتربتُ منه وربتتُ على رأسه لكي أهدئ من روعه، وقلت: لن أُحملك ما لا تحتمل ولا أريد أن أُحدث لك أي مشاكل، أنا فقط أبحث عن توأمي وأحتاج مساعدتَك أنت، ممكن تكون كلمة، أو وصف، أو نعت، أو اسم، أو إشارة، أو حركة تنقذ توأمي …

أرجوك …

نظر إلي نظرة حائر، خائف، متردد بين الإقبال والإدبار، كأنه يعيش صراعا داخليا بين الخير والشر

قلت له: أرجوك أنصت إلى قلبك ودعه يرشدك ………… أنا في انتظارك وتوأمي في انتظارنا معا …

طأطأ رأسه للأسفل وبدأ يتمتم بكلمات غير واضحة، أستمع بعمق ولم أفهم، أخرجت هاتفي وحاولت تسجيل ما يقوله حتى أستطيع إعادته مرات متعددة لكن بدون أي جدوى.

فضلت هذه المرة أن أنهج أسلوب الصمت، والنظر إليه بعينيّ المغرورقتين بالدموع التي كنت أداريها حتى لا يَكتشف ضعفي، فظللت متمسكة بكبريائي، ومتغطرسة رغم حاجتي له.

انتظرت لفترة طويلة رغم أني أرفض الانتظار، لكني فهمت أن الصبر سيد القرار هذه المرة وله حدود هنا، وفيما أنا أحدق فيه، كان غاطسا في تفكير عميق، كأنه يحل عملية حسابية معقدة، استشكل عليه فهمها واستيعابها، كان يتمتم بكلمات متقطعة كأنها ألغاز متشابكة مع بعضها البعض.

اقتربت منه، ونظرت إليه، وفي نظرتي توسل، وحرقة على أخي بدر …

أتوسل إليك ساعدنا

فتمتم بكلمة واحدة: “أنا خائف منهم ”

فقلت: هل تعرفهم؟

قال: “نعم”. وبدأ يرتجف

قلت: إلى هذه الدرجة تهابهم؟

قال: “نعم”.

فقط اختطفوني من قبل مثلما فعلوا بأخيك بدر، لكن الفرق بيننا هو أن أمي لم تكن تعرف آنذاك إلى أين تذهب، أو مع من تتكلم، لاسيما وأنها لم تكن تتقن الدارجة المغربية، فقد كانت لغتها الأم الأمازيغية فقط، وكنا آنذاك في انتظار القطار للذهاب إلى أزمور، ولكن فرحتَنا بالعودة إلى أحضان العائلة لم تكتمل بسببهم..

وبينما هو يسرد قصته، كنت منهمكة في التفكير في أخي بدر الذي لا أعرف له طريقا، وتراودني مخاوف كثيرة ولكن لم أفصح عنها قولا أمامه، بل تركت لجسدي التعبير عنها من خلال تشابك الأصابع، فكرت في أن أقترح عليه الذهاب معا للبحث عن أخي لكنني تريث وفوضت أمري للمولى وعدت إلى الانصات إليه وفي داخلي ألف سؤال.

حينها كان هو يتابع سرده. فقد أخذوني على متن سيارة لا أعرف كيف كانت، أو من أي نوع كانت، لأنهم كانوا يضعون على عيني شريطا أسود، وكبلوا يداي بإحكام حتى أنني لم أعد أشعر بهما، كل ما كنت أسمعه هي خشخشة الأعشاب، وصعوبة المشي فوق تلك الأحجار، ففهمت بأن المكان عبارة عن خلاء لا غير.

ومع بداية تخطيطهم لقيامهم بعمليتهم الشنيعة، التي سمعت أحدهم يصفها لهم عبر مراحل، حتى يتمكنوا من الحصول على قلب، وكليتي شاب يافع، وعلى كل الأعضاء الحيوية التي يرون بأنها مُدرة للأرباح عليهم …حتى كاد يُغمى عليَّ وعرفت أنها نهايتي.

في تلك الأثناء بدأ شخص ما يزيل ملابسي، حتى وصل إلى الداخلية منها، وحينها لم أكن أفعل شيئا، كنت جثة هامدة، وبدون سابق إنظار تبولت على ما تبقى من الملابس الداخلية، فانتفض الشخص وصفعني صفعة قوية، ثم قدف بي حتى استدار رأسي من مكانه.

فتذكرت في تلك الأحيان لما كنت أتبول على ملابسي وفراشي، كيف كانت أمي توبخني دون أن تُقدم على أي فعل آخر، حينها أكتفي بالخجل منها لثوان معدودة، لكن احمرار الخجل منها، تحول إلى لهيب صفعة، أيقنت خلالها أن التبول اللاإرادي مع هؤلاء أصبح تبولا إراديا.

قذفته كانت كافية بأن تجعلني أسمع طقطقة عظامي، أحسست حينها بإهانة عميقة، لكنني لم أكن أقوى على فعل أي شيء أمام هؤلاء الذين لا أعرف سوى أصواتِهم.

وبينما أنا أفكر…، لا أعرف ما الذي حصل فسمعت صراخا وضجيجا قويا، حاولت النهوض واستجماع طاقتي، والذهاب ولو أنني لم أكن أعرف إلى أين، وفجأة قررت التوقف والاستماع إلى ما يحدث.

فهمت بأنه حصل اشتباك بين عصابتين حول اختفاء بعض الأعضاء البشرية من المستود ع المشترك بينهما، حينها، قررت بأن أفك الرباط الذي يقيد يداي معا، وبأن أركض بأقصى سرعة ممكنة حتى أصلَ إلى بر الأمان.

لكن لطف الله عليّ كان أكبر، حيث أرسل عليهم وابلا من العصابات، داهمتهم وحاولت الاستحواذ على كل الأعضاء البشرية التي بحوزتهم… في تلك الأثناء استجمعت قواي وبدأت في تنفيذ خطتي، بدءا بفك يداي المكبلتين، عن طريق عملية الاحتكاك مع الحائط الخشن، مرورا بإزالة الشريط الأسود على عيني، الذي ما أزال أحتفظ به إلى هذه الساعة، انتهاء بإطلاق العنان لساقي الذي لم يتوقف إلا بعد أن وصل إلى محطة القطار، باعتبارها المكان الوحيد الذي كنت أعرفه وأتذكر مبناه آنذاك.

مغامرة ما زلت أتذكرها لأنها تركت أخاديدها مرسومة كخريطة جغرافية في ذهني، أذكر لحظة وصولي إلى محطة القطار بجسمي النحيف شبه عار، فكنت محط سخرية الجميع، مسافرين وباعة متجولين وحمالين، كنت أريد أن يستر عورتي أحدهم لكن كل ما فعلوه هو النظر إلي بعين السخرية، تجرعت من خلالها الإهانة والاحتقار والدونية.

أيقنت بأن الملاذ الذي كان يحميني ذهب هباء منثورا، خاصة وأنني عرفت من العديد من الباعة أمام المحطة، أن سيدة كانت تبحث عن ابنها الذي ضاع منها في لحظة، ونظرا لصعوبة تكلمها بالعربية عَسر عليها التواصل مع عموم الناس، مما جعلها تشعر بالخوف المضاعف من ألا تجد ابنها ومن زوجها الذي لن يرحمها، ولن يستسيغ كيف ضيعت طفلها الوحيد، فظلت المسكينة تبحث، لكن بدون جدوى، ولازدواج هلعها وخوفها وحزنها، وقلة حيلتها، تعرضت لسكتة قلبية.

سكتة قلبية كانت كافية بأن تسكتنا معا، لكن كل بطريقته الخاصة، فمنذ معرفتي بذلك الخبر المحزن، وأنا أُلازم الصمت، وأكتفي بالنظر للآخرين… قاطعته قائلة:

كل هذا تحمله بداخلك يا…

فأجاباها: “يا شمس الدين”

ــــــ اسم على مسمى

وأنت؟

ـــــ أنا قمر وتوأمي بدر

رد حينها شمس الدين قائلا: …” يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ”

تعجبت من سرعة البديهة التي لديه، واكتفيت بالنظر إليه….

شمس الدين لماذا لم تعد إلى مسقط رأسك؟ لماذا فضلت البقاء هنا؟

أجابها، سأجيبك عن هذا السؤالِ بعد أن نذهب معا إلى مقبرة اليهود وننقذ بدر

ابتسمت وفرحت بسماع ذلك، وأيقنت بأن دعاء والدتي مازال يرافقني فشكرته بطريقتي الخاصة.

انطلاقنا كالسهم إلى مقبرة اليهود التي توجد بجوار مدرسة مهجورة الآن، بدأنا نترصد المكان، ونخطط في كيفية الدخول إليه، وفجأة اتفقنا بأن أقوم بدور متسولة عجوز، تذهب إلى باب المقبرة، وتستقر هناك وتعمل على تشويشهم وإزعاجهم، بينما يتسلل شمس الدين من جدار المدرسة ثم إلى المقبرة، ويلج إليها ليبحث عن بدر.

بدأت في تنفيذ الخطة عن طريق استغلال مساحيق التجميل التي كانت بحوزتي من أجل رسم تجاعيد على وجهي، وفي أن أجعل بعض خصلات شعري تكتسي لون الصوف، في تلك اللحظات تذكرت دميتي التي كنت أغير قناع وجهها بالأقلام الملونة، خاصة لون شفتيها التي أكنت ألطخها بأحمر الشفاه البارز عليها، والذي مازالت أعشق وضعه وبحرفية تامة حتى الآن على شفتي لكنني قاطعت شرودي هذا بارتداء ملابس رثة وممزقة أحضرها لي شمس الدين الذي كان بدوره يترصد المكان كصياد محنك من أجل الصعود إليه خاصة وأنه عال جدا.

حينها فكر بدر بالاستعانة بالشجرة السامقة بجوار المدرسة والمقبرة كأنها وجدت لكي تحل أزمتنا. حينها بدأ شمس الدين يتسلقها بمرونة كأنه مدرب جمباز بلهواني متمرس لعقود متتالية على ذلك.

في تلك الأثناء كنت أشعر بالخوف في تنفيذ الخطة، وراودتني هواجس في أن أكون فريسة سهلة في يد هؤلاء العصابة المتمردة على كل القوانين الإلهية والبشرية.

بينما أنا كذلك، سمعت صوتا داخليا يدفعني، فذهبت إلى المكان المُقرر وبدأت إصدار صوت متقطع، أوهمت به العصابةَ بأنني متسولة، تتسول قوت يومها من المارة والعابرين، وبعد برهة من تعمدي إحداث ذلك خرج رجلين مكتنزي العضلات، يلبسان ملابس رياضية سوداء، وأحذية متينة، ولديهما نظرة حادة وحانقة، في تلك اللحظة شعرت بأن نور شجاعتي انطفأ وهجه مرة ثانية، وأن أمري سينكشف أمام قوتهما.

ـــ صاح أحدهما “ما هذا الضجيج؟”

ـــ ومن دلك على هذا المكان؟

ليس من عادة المتسولين أن يكونوا هنا، بأي منطق تفكرين.

ـــــ قلت وصوتي فيه رنةُ من الخوف

جلست بجوار هذه المقبرةِ لأنها المكانُ الذي يلج إليه المسلمون ليترحموا على أرواح من فقدوهم.

قهقه أحدهم قهقهة مُدَوِية وقال:

هل تمزحين معانا؟ أو تسخرين منا؟ هل هذه المقبرة للمسلمين؟ ولنفترض أنها لهم، هل توجد متسولةُ بلهاء تتسول في الفجر، قبل استيقاظ المترحمين، أم أنك تريدين أن تضمني مكانك بجوارهم.

كلامه جعلني أشعر برعشة تسيطر على كل جوارحي، فخشيتهم أكثر من ذي قبل لكنني سكتت سكوتا عميقا حاولت من خلاله تضييع بعضَ الثواني، ليستغلها شمس الدين حتى يستطيع تنفيذ العملية المتفق عليها، وفي أن أسترد قوتي التي فقدتها للمرة الثالثة.

وفي لحظة الأوريكا، أخرجت قطعة من الكعك، وقلت لهما، لقد مدني أحد المارة بهذه القطعة في هذا الفجر مما جعلني متأكدة بأن الله سيرزقني المزيد، ولو كنت في هذا الوقت المبكر، وخير دليل على ذلك وجودُكما الآن بجواري، فأنتما رزق في حد ذاته.

نظرا إلي وحدقا في بعضهما ثم قالا:

“لا تحاولي استعطافنا فلن نعطيك فلسا واحدا كل ما يمكننا فعله الآن هو أن نجعل لك مكانا بين هؤلاء الموتى أيتها العجوز”

قلت لهما: لقد أعطيتموني أكثر من المال وأرقى من ذلك المكان.

نظرا إلى بعضهما البعض وبدت عليهما علامة الاستغراب

حينها كنت أخاطب نفسي قائلة هذه هي قمر الشجاعة، قمر التي ولدت لتحمي بدر ونفسها.

قال أحدهما:

ــ ما خطبك أيتها المتسولة؟

ــــــ ماذا تريدين؟

ــــــ وإلى ماذا تلمحين؟

قلت: لا أريد شيئا ولا ألمح لأي شيء. أنا أتكلم معكما بصدق تام وخالص، فقد منحتماني في فجر هذا الصباح المُبارك معلومة كنت أجهلها كمتسولةِ، وهي أن هذه المقبرة ليست للمسلمين، كما أنكما عرفتُمَاني بِكُما، وبالتالي يمكنني الاعتمادُ عليكما في حالة تعرضي لأي أذى من الذكور الضالة وأنا متأكدة، أليس هذا أكبر رزق في هذا الصباح؟

كنت أعرف بأن كلامي لا يحمل أي منطق بالنسبة لهما، وممكن يستخدمانه ضدي خاصة وأنهما يفكران بمنطق واحد هو القتل واستغلال الآخر، لكنني كنت متأكدة بأن الذي أخرج يونس من بطن الحوت سيخرجني من قعر هذه المشكلة، لذلك كنت أردد في داخلي دعاء يونس عليه السلام: “لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ” وأنا كل إيمان بأن الله سيستجيب كما استجاب لنبيه “فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ”.

أجابني أحدُهم بسخرية تامة “متسولة بلهاء هيا بنا يا صديقي فلدينا من العمل ما يكفي ليس لدينا الوقت لكي نستمع إلى خرافات عفا عنها الزمن”.

في تلك اللحظة، أيقنتُ أن العمل الذي تكلم عنه أحدهما، متعلق بأخي لا محالة.

ففكرت في أن أمنح شمس الدين مزيدا من الوقت لكي يتمكن من انقاذ أخي، وبسرعة سهم منطلق، ناديتهما، وقلت لهما:

أرجوكما عندي لكما طلب قبل ذهابكما.

نظرا إلي نظرة حادة، فتسرب إلي شعور الخوف من رأسي إلى أخمص قدمي، ولكني تشجعت، وقلت لهما أعرف بأنكما مشغولان جدا كما قلتما، ولكنني أريد أخذ بعض الأكل منكما لأولادي، فهل تساعدانني في أخذ بعض من البقول الموجودة بالداخل؟

نظرا إلي وقالا:

والله أنت متسولة شمطاء من سلطك علينا في هذا الصباح المقرف، ابتعدي عن المكان وإلا … وقبل أن يكمل جملته قال صديقه:

فلنقدم لها ما طلبت لن يأخذ منا الأمر أكثر من خمس دقائق حتى تغرب عن وجهنا وإلا سندفنها حية.

شكرته شكرا عميقا، وبينما هما يقطعان لي البقول الذي طلبته، كان بدرا في تلك اللحظة يحاول القفز إلى المقبرة اليهودية، المكتنزة بالموتى والأحياء اليهود والمسلمين، الذين يجمعهم مصير واحد، هو ملقاة ربهم. قفزة بدر كانت ناجحة على ما يبدو ولم تثر انتباه الشخصين

بعد هذه المرحلة يجب على بدر أن يتسلل كما اتفقنا بين قبور الموتى اليهود الذين حاولوا أن يردوا جميل تعامل صاحب الجلالة “محمد الخامس” معهم الذي فتح باب المغرب لهم من شماله إلى جنوبه عندما استهدفهم هتلر بعد الحرب العالمية الثانية فيما عرف بعد ‘بمحرقة اليهود’، فكانوا يد العون لنا في هذه الظروف الحالكة التي أجهل مصيرها. سيطر علي التوتر حينها فكنت أدعو الله وأحاول النظر أعلى سور المدرسة وبعد مدة طويلة رأيت شمس الدين يعاود التسلل من المقبرة إلى المدرسة هذه المرة، فشعرت بالهلع لأنني لم أر برُفقته توأمي فاحتد التوتر وتواردت الوساوس ولكنني استسلمت للانتظار تارة أخرى حتى أحصل على البقول من الرجلين، فكنت أحاول تهدئة نفسي من قوة الخوف والرهبة…. في هذه الأثناء تقدم أحدهم وقال: “تفضلي ما طلبته واغربي عن وجهنا، ومن هذا المكان حالا، لأنه والله لو رأيتك هنا سوف أ……”

قلت: بدون أن تُقسم سوف أذهب أرجوك.

أخذت أمتعتي وانحنيت واتكأت على عصاي كعجوز بلغت فعلا من الكبر عِتيا، وأخذت أقول بعض الأدعية لهما كنوع من الامتنان والشكر لمساعدتهما الكبيرة لي.

أقفل باب المقبرة اليهودية، لكنه يا ترى هل إقفاله هذا سيكون أبدي حتى على جثة أخي بدر؟ هل مازال أخي بدر بين يدي هؤلاء المجرمين؟ أم استطاع شمس الدين إنقاذه؟

أسئلة تتهاطل علي ولكني لم أجد لها أجوبة شافية كافية.

بدأت أمشي وأحث الخطى خائفة من أن ينكشف أمري، وبينما أنا ذاهبة ظهر أمامي بدر بهيبته وبوجهه المشع نورا، وارتمى بين أحضاني، فتعانقنا لمدة طويلة كأننا عشيقان لم ير أحدها الآخر منذ عقود متتالية.

فحمدت الله على لم شملنا بعد ما أصابنا الطوفان البشري الذي هدم حلمنا في تلك الليلة الظلماء، فسألت بدر عن شمس الدين.

فأجابني بحسرة ويأس:” لقد ذهب ”

بدون أن أشعر، انتفضت وقلت إلى أين؟

“لقد أخذ أول قطار له ورجع إلى مدينته ليعود إلى أحضان عائلته هذا ما قاله، ولقد شكرك كثيرا وقال بأننا كنا السبب في إقدامه على هذه الخطوة وبأن هذا الفعل جواب على سؤالك الذي سبق وأن طرحته عليه”.

فرحت فرحة كبيرة وحمدت الله من جهة على وصول شمس الدين صاحب الذكاء الخارق والتخطيط البارع إلى مكان بدر، كيف لا وهو الذي كان يتسلل دائما إلى بساتين الفواكه في مدينة أزمور، كان يعرف كيف يترصد أصحابها وكيف يتسلل بين أشجارها، فنفذ ببراعة محكمة هذه المجازفة. ومن جهة وعلى اجتمعنا أنا وتوأمي بعد فراق لم يكن يسيرا علينا معا….

أخذنا بعد ذلك سيارة أجرة صغيرة وعدنا إلى منزلنا وغصنا في نوم عميق لم نستطع إلى الآن الاستيقاظ منه، والتخلص من عياء تلك الليلة المشؤومة، لاسيما أنني ما زلت متشوقة لسماع أحداثها بالتفاصيل من أخي بدر، وكيف كانت ردة فعل شمس الدين عندما انتصر على عصابة إجرامية دبت الرعب في النفوس البريئة.

نعم شمس الدين الذي جمع كل الصفات في شخصية واحدة، لا يمكن للزمن أن يعيدها مرة ثانية. قلت ذلك وأنا في طريقي إلى الحمام لغسل وجهي من مساحيق الألم والعياء واليأس التي مررنا منها.

 

 

 

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!