غريزة الأمومة/ بقلم: أنور الخالد

آفاق حرة

أشرقت شمس صباح يوم عملي  الأول. في موقع لشركة تنقيب عن النفط. بصحراء جرداء مبسوطة لا يسكنها  أنس و لا جان. لا ماء فيها  ولا جب ولا زهرة أو عشب وإنما رمال وكثبان، تذروها الرياح فتنقلها كل يوم إلى مكان .

و الشمس نحسبها سقطت على رؤوسنا. حرها و لهيبها يذيب الأبدان.

ثلة من المهندسين و الفنيين  والعمال من شتى الجنسيات جمعتنا لقمة العيش في بيداء مترامية الأطراف. يشق هدوءها المثير وصمتها المخيف صوت العمال وضوضاء الألات .و نباح متقطع لكلب مطيع ابيض اللون  قد ألف المكان يجول بيننا .

عندما تسقط الشمس خلف الكثبان وتزحف جنود الظلام. نجلس على مقاعد خشبية بسيطة أمام أبنية مسبقة الصنع نتسامر  تحت ضوء قمر يتوسط الثريا و أنجمها اللامعة. يداعب أجسادنا  نسيم الصبا العليل.

سألت زميلي و هو الأقدم بيننا والذي يجلس بجانبي . ما لي لا أرى الكلب و لا أسمع نباحه؟ .

قال وهو يشير بسبابته : إنه  خلف تلك التلة  ينام بجانب قبر أمه .

سألته وهل لأمه  قبر؟

قال: نعم  فلهذا الكلب قصة مؤثرة.

إنتابني الفضول لسماع  حكايته فالليل طويل و لا يقطعه إلّا الحديث الجميل.

وبعد إلحاح شديد. قال : بصوت حزين و تنهدات متتالية .

كانت معاناتنا كبيرة عندما بدأنا العمل بهذا الموقع. فأقرب قرية أو مدينة تبعد عنا لساعات.

تقوم الشركة  بتأمين حاجاتنا  الأساسية كل خمسة عشر يوم عبر مركبة تحمل ما يكفينا من طعام وشراب. تجر خلفها مقطورة ماء.

ذات يوم من أيام الصيف الحار و بعد مضي  بضعة أشهر من بداية العمل . كنا نستلقي منهكين متعبين  تحت ظل خيمة  يقرصنا الجوع و نهذي من شدة الظمأ .إذ   لاحت في الأفق  مركبة المؤنة و التي  تأخر قدومها لأيام بسبب عطل أصابها حتى نفذ ما معنا من زاد و ماء.

وقفنا متحفزين لوصولها. فهي أملنا للبقاء على قيد الحياة.

و المركبة تقترب منا تتهاوى على درب رملي.  وكلبة ترافقها  تجري معها تحوم حولها، تنبح بصوت عالي تحاول إيقافها و قطع طريقها.

وفور  توقفها  أمامنا  نزل سائقها غاضباً حاملاً عصا استلها من تحت مقعده و اتجه مسرعاً إلى الكلبة التي تحاول الفرار منه . فقد أستمد الشجاعة و رباطة جأشه بوجودنا.

إنهال ضرباً  على جسدها  الهزيل بعصاه و هي  تلوذ عنه وتبتعد منه.

حتى أراق دمها  و ضعف صوت  نباحها فلقد  أنهكها التعب. فسقطت على الأرض. تتمرغ بالرمال و ترنو الينا فرداً فرداً تستجدي بنظرات حزينة أن نتفهم مصيبتها.

اقترب أحد المهندسين باتجاه السائق يوقفه عند حده  و ينهره على سوء فعله و يلومه على غضبه المفرط و اتجه إلى المقطورة يملئ الدلو بالماء  و هو متأكد أن الكلبة قد لواها العطش.

حاول سقايتها بشتى الطرق  لكنها أبت.  تحدق إلينا  بعيون دامعة بائسة تحاول الوقوف. تنظر إلى  الطريق الذي سلكته المركبة وكأنها توحي إلينا بشيء.

هنا تذكر السائق   بعد أن هدأ روعه وعاد لرشده و أحس بعظيم ذنبه. فقال: لقد شاهدت  جرو يجري خلفها. لا بد و أنه أصابه مكروه.

أخذ المهندس دلو الماء مسرعاً على درب المركبة  حتى شاهد  خلف كثيب رملي  صغير جروها يلهث عطشاً و قد أنهكه التعب.

بعد أن سقاه واشتد قوامه لحق أمه .

يلعقها بلسانه ويطوف حولها ويستلقي عليها و هي تنظر إليه بعيون راضية.

كل من كان بالموقع لاحظ دموعها و هي تغمض عينيها مودعة وليدها بنظرة ملؤها الحنان. سعيدة لإنقاذه حزينة على فراقه.

ارتمى الجرو على أمه يشدها بأنيابه و هي صامتة ساكنة.

و من ثم يرفع رأسه للسماء بنباح حزين يملأ الفضاء.

واريناها الثرى كي لا تتفسخ جيفتها بالقرب منا.

منذ ذاك اليوم وهذا الكلب عند غروب الشمس يذهب و ينام فوق قبرها و عند شروق الشمس يكون بيننا.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!