كتبت ليلى الحيمي. أنا جابر،جابر الطي. قصة قصيرة

لآفاق حرة

” أنا جابر،جابر الطي…….”

بقلم- ليلى الحيمي. اليمن

هذه المرة لا يريد أن يستيقظ كعادته مبكراً فقد سئم من التبكير, سئم من لف كراتينه الممزقة في كل مرة والتي كان بعضها يعبث بها الحيوان ليقضي حاجته عليها أو يُمزقها في الغالب، حتى الشمس هذه المرة كانت شديدة الحرارة جاءت لتسلع جبينه الٌمسمَر من إثر وقوفه الكثير هناك ،وكأنها هي الأخرى تريد منه أن يستيقظ كعادته لكنه هذه المرة كان كسولاً، لا يريد أن يستيقظ وكأنه أحبً النوم والخلود فيه لأول مرة فتمنى ألا يستيقظ منه، وفجأة أحسَ بحرارة الشمس اللاسعة وكأنها أم تعاقبُ ابنها على تأخره عن موعده ،فاستيقظ وهو كاره لذلك، عندها نهض وهو يتثاءب ،ويلف كراتينه الممزقة ثم نظر إلى جيبه المهترئ ليرى كم تبق لديه ليشتري بعض ما يُسد رمقهُ وعند حاول الوقوف والمشي أحسَ بالتعب ،فقد خارت قواه ،فجلس في مقعد كان في الشارع حوله أشجار استظل تحتها وكأن تلك الظلال جاءت تواسيه قليلاً لتخفف عنه بعض تلك الحرارة التي جعلته يضيق ذرعاً منها وبينما هو كذلك، لفت انتباهه طفل صغير كان يُوبخه رجلٌ يبدو عليه الثراء ثم تمادى في توبيخه وقام بضربه بشكل قاسٍ ودون أي رحمة والكل من المارة كان يتفرجً والبعض منهم كان منشغلاً بنفسه ، عندها لم يستطع أن يتمالك نفسه وكأنه بذلك الموقف رأى شريط حياته أمامه فهرع مسرعاً إلى ذلك الرجل ليُلقنهٌ درسا لا ينساه أبدا، فبدأ يضربه بشكل هو الآخر لم يستوعب كيف ضربه إلى درجة أنه كان سيخنقه من كثرة الضرب إلى أن جاء بعض الناس ليحلوا ذلك الشجار الذي حدث بينهما وينقذوا ذلك الرجل الذي كاد أن يموت، وبعدها مضى الرجل والناس بعيدا عن أعين ذلك الرجل الذين كانوا يظنونه بأنه معتوهاً فهو لا يِعي ما يفعله، وبعد مضيهم كان ذلك الطفل تحت سيارة أخرى لم يفرغ من تنظيفها لينال بعض النقود ليشتري بعض الخبز- فهو من الصباح لم يأكل شيئا – فقد وعده ذلك الرجل بالنقود إذا أكمل غسيلها وبالرغم من هذا كان يبكي من الضرب ومن هم الغسيل الذي.
لم ينته بعد منه وكأنه يهمس ببكائه حتى لا يكاد يسمعه أحد سوى ذلك الرجل المدعو بالمعتوه ،عندها ذهب إليه وقال له: “لا تبكي ، أنت لست ضعيفاً”، قال الطفل وهو لا يفهم ما يقصده: “ماذا يعني ضعيف؟” أجاب بحمية وبغضب شديد : “هو أن تبكي بدلاً من تقاتل” ، لم يفهم الطفل تلك الكلمات كثيراً فأردف قائلاً: “لم أفهم” ، أجابه سريعاً: “سوف تٌكبر يوماً وسوف تفهم ما أقصدهُ”، وبعدها أراد الطفل أن يسأله سؤالاً آخرا لكنه مضى بشكل سريع غير آبه بأسئلة ذلك الصغير وظل الطفل يصرخ بصوته ويقول : “أيها الرجل، أريد أن أسالك أين أنت ؟،لماذا ذهبت…؟”
وفي ذلك اليوم كانت نقطة تحول له وكأنه يوم جديد مغاير لم يألفه ,فلم يُعد يريد الحياة البائسة فقد سئم من النوم في الشارع كمتسول ليمد يده للغير ,ومن افتراش تلك الكراتين الممزقة التي عاث عليها الزمان, ومن تلك النظرة الدونية له من الناس وكأنه ليس منهم ،ومن مناداته بالمعتوه وهو يٌمثل عليهم بأنه حقاً معتوه حتى ينسى واقعه المرير، ومن الذكريات التي تلاحقه صباح مساء، ومن نفسه حينما يكون عاجزاً لا يصنع شيئا سوى الضعف أمام الآخرين، ومن نظرته لنفسه بأنه لا شيء وهذه المرة سيثبت عكس ذلك.
وفي تلك الليلة طلب من متسول آخر أن يعطيه هاتفه ليتصل ، استغرب ذلك المتسول طلبه ذاك، حيث أنه عندما سأله أول مرة عندما التقيا في الشارع والبدء في هذا المجال قائلاً: “هل لك أقارب؟” قال: “لا “،كيف يريد الهاتف ؟، بمن سيتصل؟ وكثيرا من الأسئلة ظلت تجوب في خاطره، فجأة وبدون سابق إنذار تفاجأ بصعفة قوية على وجهه من ذلك الذي لطالما كان يُناديه بالمتسول الغبي المعتوه كيف له أن يكون بتلك القوة والشراسة وكأنه شخص آخر لم يٌعرفه يوماً ما ،فيقاطع أفكاره ويردف قائلاً: “بم تفكر؟ أعطني الهاتف” ، وهو من هول الصدمة لم يستوعب ذلك فناوله الهاتف وبعدها مضى بعيداً عن عينيه وأخذ يكتب الأرقام وكأنه كان منتظراً لتلك اللحظة منذ زمن طويل ، ليرن الهاتف بعد ذلك فتجيبه امرأة يبدو عليها بأنها أربعينية أو خمسينية العمر فتجيبه قائلة: “من معي , من المتصل”، تذكر صوتها ونبرتها تلك التي لم يتغير يوماً صوتها الذي ترافقه الحدة والخشونة والغطرسة المستمرة فباغتت الكلمات ذاكرته المؤلمة ليُرد عليها بصوت مغاير غير صوته المألوف للجميع: “هل أنتِ هدى؟” ، فتجيبه بكل تكبرٍ: “نعم ،ماذا تريد؟ من أنت؟” فيجيبها سريعاً :”أنا فاعل خير، أريد أن أٌخبرك بشيء تعرفينه عن رجل أسمه جابر” فتجيبهٌ على الفور: “من جابر؟” فيحس بغصة شديدة داخله، كيف لها أن تنساه وتعيش حياة هانئة بدونه، فيقول لها :”جابر المتسول أتعرفينه!” فتقول :” آه ، نعم عرفته الغبي المتسول الأحمق المعتوه”، تلك الكلمات كانت كوابل من الرصاص على قلبه زادته غيظا عليها وكرهاً ، وأراد أن يشتمها بشتى الشتائم ، إلا أنه مسك أعصابه هذه المرة قائلا لنفسه: “أهدأ ،ستردٌ كل شيء في وقته وحينه “، فأجابها:” نعم هو” ، فأجابته: ” ماذا يريد هذا المعتوه؟”.
زادت تلك الكلمات حقداً عليها ،فيقول لها:” لا شيء ، أنه مات” فيسمع صوت غريباً منها وهي زغاريد فرح لم يتوقعه منها أو بالأصح كان متوقعاً منها ذلك لكنه لم يتخيل أن الوقاحة ستصل بها إلى ذلك الحد حتى في الموت فهي لا تأبه إلا لنفسها فتباغتُ زغاريدها قائلة:” كارثة وانتهينا منها ،الحمد لله”، لم يتوقع أن لهذه الدرجة ناقمة عليه رغم أنه لم يُقصر بشيء في حقها ،بلً أنها هي من كانت تظلمه ويُسامحها ،فيرد عليها قائلاً “اسمعي ، أردت أن أُبلغك أنه تُوفي وترك لكم نقوداً جمعها خلال تلك السنين التي قضاها هناك في الشارع وأوصاني أن أتصل بكم بعد موته لتأخذوها وأحببتُ أن أنفذ وصيته ،لأنكِ كما تعلمين لابد أن تُنفذ وصية الميت” لتشرع بالضحك الهستيري قائلة : “من أين له نقوداً هذا الغبي ؟ وكم سيجمع؟ بالطبع لا تساوي شيء سوى مئة دولار أو مائتين بالكثير ” بغاتها بقولهِ : “المبلغ الذي تركه لكم مئة مليار “. فجأة تغيرت نبرة صوتها بشكل كلي وبدت كأنها جدية ومصدومة من قوله قائلة: “ماذا تقول؟،أنت كاذب ،ومن أين له هذا المال؟” قال لها: “هو توسل كثيرا للغرباء وعاش حياة الذُل ليجمع هذا القدر من المال” , لكنها لم تصدق وطلبت صورة لذلك المبلغ فقال لها:” كما تأمرين سأقوم بتصوير المبلغ وسأرسله لك” وبالطبع ماهي إلا دقائق معدودة وارسل لها صورة بالنقود كاملة وهي مفروشة على الشارع بداخل الكراتين الممزقة ،لم تتخيل في حياتها أنها ستحصل على مبلغ كهذا وطلبت منه متوسلة أن تلتقي به في أسرع وقت ممكن حتى يٌعطيها المال ،فأمرها أن تنتظره في قصر زوجها المتوفي ،فُصُعقت بشكل أكبر عندما علمت أن لديه قصر وطلب من ابنها أن تبلغه كذلك بأن يحضر وأن تتصل على أخيه لأنه كذلك مكتوب في الوصية لكنها عارضت قائلة:” لماذا ذكر أخاه؟، فقد طردهُ من بيته واستولى على مِيراثهِ، لماذا هو أبله وغبي لهذه الدرجة ؟” استحضرت له تلك الذاكرة الموجعة ،لكنه رد عليها قائلاً :” أعتذر، لا أعرف ولكن هذه وصيته ولابد أن تحضروا الثلاثة ،لن أعطيك العنوان ولن تستلمي أبدا ذلك المبلغ ، وحتى لا تخدعيني فقد أعطاني صوركم جمعيها” فتسَمرت في مكانها قائلة في نفسها:” كيف له أن يحتفظ بصورنا رغم أننا كنا قاسين جداً معه ؟” فخنقتها العبرة بداخلها قائلة:” أحقا يُحتفظ بصورنا” قال: “نعم ” قالت عبارة كأنها تدلُ على الحزن مغطاة بالغطرسة المعتادة عليها:” لا أدري، لماذا الطيبون دائما يخسرون؟” ،وأراد أن يسألها إلا أنها أغلفت الهاتف على وجه سريعاً، حتى لا يكتشفها بأنها بدأت تجهشُ بالبكاء فهي لا تريد أن تهتز صورتها المتغطرسة أمام أحد.
فظلت تغرق في بكاءها فأعادت شريط ذكرياتها معه كيف كانت تعامله بقسوة وكيف خانته رغم أنه كان لديها طفل منه وكل ذلك لأنه كان طيب وضعيف الشخصية فهي الآن في حزن عميق مع زوجها الجديد الذي يجعلها تنام حزينة ومكسورة بل يخونها أمام عينيها وكأن عجلة الظلم تدور عليها حين كانت تعامل زوجها بنفس تلك المعاملة ، فقد كانت متسلطة ومتغطرسة وخائنة وهو يعلم بكل ذلك ومتمسك بها ولم يجرحها قط، أدركت أنها حقاً ظلمت من لا يستحق الظلم، ورجعت بها الذاكرة إلى الوراء ،كيف أن أبنها الذي لطالما كانت تحرضَه ضد أبيه حتى يخلو لها الجو في فعل ما تريد هو الآخر تخلى عنها وطردها إلى الشارع حين لجأت إليه لتهرب من ضرب زوجها قائلا لها : “أنتِ كذلك كنتي تفعلين بأبي نفس ما يقوم به زُوجكِ ،فتحًملي ” وكأن كلامه أتى كصاروخ يحمل في طياته شرارة مشتعلة تلتهم كل أجزائها ولم يتبقى منها شيء ،فأملها الوحيد الذي كان أبنها ، قد تبعثر وقد خابت ظنونها فيه ،وتذكرت كذلك أخا زوجها حينما كان يٌعامل زوجها بقسوة لم يراها من قبل فهو الأكبر منه فقد كانه يضربه بقسوة دون أدنى أي رحمة أو شفقة حتى بعد أن أصبح أباً فقد كان يضربه أمام أبنه وهو كالطفل المهذب الذي لا يُصدر صوت سوى البكاء والنحيب وهي الأخرى توبخه لأنه ضعيف الشخصية وازدادت غيطاً منه عندما استولى أخوه على ورثهِ فسامحه ولم يقاضيه قائلا:” هذا أخي ،لا استطيع أن أرفع شكوى ضده في المحكمة” فقررت الطلاق منه والخلاص ليلجأ هو الآخر إلى الشارع بعد أن تخلوا عنه الجميع حتى أبنه فلذه كبده الذي رماه هو الآخر في الشارع ليتفرغ هو مع زوجته التي لطالما اشتكت منه كثيرا من وجوده معهم ليقرر هو الأخير رمي أبيه في الشارع دون أدنى أي إنسانية، شريط من الذكريات مرً عليها وكأنه أمام أعينها، تمنت أن يعود الزمن للوراء لتكفَر عن خطاياها ،لكن ما من ندم ينفع بعد الذنب ،مكتفية بقولها والدموع تتخلل عينيها :” لا تستحقٌ ما عشته ،ربما كانت مشكلتك أنك طيب جداً في زمن لا ينفع فيه الطيبون أبداً ،رحمك الله يا جابر” لتتصل بأبنها وأخو زوجها وتخبرهم بذلك ليتفاجؤوا هم الآخرين ،لكنهم قرورا الذهاب إلى ذلك المكان من أجل المال فالمبلغ يستحق الذهاب من أجله.
وبعد أن أتم محادثته معها أسترجع تلك الذكريات المؤلمة التي لطالما حاول أن ينساها أو تمنى أن يصيبه غيبوبة دائمة تجعله يفقد الذاكرة تماماً ويصبح معتوه كما هم ينادونه في الغالب، تذًكر كل ألمٍ كان من أقرب الناس إليه ،تذكر أخوه الأكبر منه الذي لطالما كان ينعته بالساذج والأحمق والغبي والذي لا يفقه شيء وكيف أن القساوة أعمَت قلبه ليَدعي بأنه فاقد الأهلية ليستولي هو الآخر على ميراثه ويُحرمه منه وهو لم يصنع شيء ضده ،رغم أن زوجته كانت تحرَضه على أن يشتكي عليه في المحاكم لينال جزاءه المستحق إلا أنه كان يرفض دوماً طلبها ويتجاهله، تذكر زوجته الخائنة التي كانت تقيم علاقات محًرمة أمامه ليطُلقها فقط لأنه ضعيف الشخصية كما تقول لكنه كان مٌغرماً بها حد الجنون فيغفر لها كل أخطائها ، فكانت تنعته بأنه لا فائدة منه ،تذًكر أبنه الذي لطالما كان يسهر الليالي ليُوفر له كل ما يٌريد ،بل كان يجلس ساعات إضافية من العمل ليكسب قليلاً من المال ليٌحقق له كل أحلامه من ألعاب وحتى يدخل التخصص الذي يرغب به في مجال الهندسة الذي كان شغوفاً بها وهو صغير ليٌحرم نفسه من كل شيء ليٌعطيه إياه، وكيف أنه تَبرأ منه، لأن أمه وزوجتهِ كانتا تقولا له:” لا يُصلح أن يكون أباً لك” ليُصدقهما ويرميه في نهاية المطاف إلى الشارع في البرد القارس وهو يبكي قائلاً:” أبني أريد أن أرجع معك البيت ،لا تتركني هنا وحدي في الشارع ، أرجوك أبني فانا كبير لم أعد صغير حتى أقوى على البرد وأخاف من الكلاب الضآلة” لينتهي التوسل والرجاء بردة فعل لم يتوقعها منه منذ حياته بضحكات استهزاء وسٌخرية ويمشي وكأن الأمر لا يعنيه، لم يكن يتوقع في يوماً من الأيام أن الحياة ستكون ظالمة بهذا الشكل لتكون نهايته في هذا المكان المظلم المليء بالحشرات وصراصير الليل المزعجة مع صريرها الغير المنتهي والكلاب الضآلة وعوائها الذي تخاف أن تسمعها في الليل فكيف وأنت بجانبها والقطط الجائعة التي تبحث عن أي شيء تأكله حتى ولو كان إنسان بشري ،بل وأصبح جسمه المتهالك كالهيكل العظمي من قلة الأكل وأمعائه تطحن بعضها البعض وكأنها تحارب من أجل ما يسد رمُقها فيضطر ليأكل من القمامة ليسد جوعه حاله كحال الحيوانات المشردة حيث أصبحوا أصدقاء لبعض فهم في الوجع متشاركون ،لم يتخيل أن يعيش حياة بائسة ليفترش الكراتين ويعتبرها غطاء ووقاء له في البرد والشقاء وحتى عند حرارة الشمس اللاسعة فلا يمتلك مظلة سوى تلك الكراتين التي كانت ترافقه من شارع لآخر، ويلتقط بعض القوارير المعدنية المرمية هنا وهناك ليبيع جزء منها وبعضها يستخدمها لحاجته وأخرى يملأها من الحمامات العامة ماءً ليشربها في الليل أثناء تلك الكوابيس التي تجعله يشعر بالعطش الشديد وكأنه يريد بئر من الماء، لم يتوقع أن يمد يده للغير الذي لطالما كانت لديه عزة نفس قوية فلا يطلب من أحد حتى وأن كان محتاج لشيء ما ، لم يتوقع أن كل ما يجري له فقط لأن جريمته كانت بسب طيبته التي كانوا ينعتوها بالسذاجة والغباء المفرط ،لم يتوقع يوماً أن الطيب هو الخاسر في هذه الحياة ، حيث كان يُردد كلمات أمه دوماً: “أن الطيب في النهاية هو من سيفوز، ويفتخر بقولها له :” أنت جابر، جابر الطيب” ولكن هذه المرة أراد أن ينفض غبار الذكريات بالنصر وليس بالهزيمة والبكاء كالعادة.
مضى إلى القصر فاستحم وتذكر أنه لم يذق الماء جسمه ، فحلق لحيته الطويلة وشعره المنفوش وعطر جسمه ولبس البدلة الرسمية لأول مرة منذ سنين طويلة، يشعر بأنه إنسان لا منبوذا كالحيوانات رغم أنه شعر للحظة أن الحيوان أفضل من الإنسان بكثير، وجلس على الكرسي ينتظر ويراقب الساعة متى سيأتون وفجأة سمع صوت سيار ة مختلساً للنظر من شرفة القصر، وبعدها دخلوا جمعيا وكانوا ينادون بصوت واحد:” أيها الرجل ،أين أنت ؟” قامت هدى لتتصل بالرقم الذي أتصل بها لتسمع رنين الهاتف من الغرفة أعلاه فتصعد هي ومن معها أبنها وأخو زوجها فيفتحون الباب ويتفاجؤون.
فماهي إلا ثوانٍ لتلهث هدى عليه قائلة:” جابر أنت حي، هل حقا أنت هو جابر” فتمشي راكضة إليه ليتبعها ابنها وأخو زوجها وماهي إلا دقائق فيتم تقييد أيديهم وأرجلهم من تحت سجاد الغرفة حيث وقد نصب لهم فخ فيردف أخوه قائلا: “جابر، ما هذا ؟ فُك واثقنا ،هيا ،كفى مزاح وسذاجة، لم تتغير، أنت كما أنت ساذج، أحمق” ليردف أبنه قائلا:” نعم ساذج غبي أحمق معتوه، ليته لم يكن أبي يوماً ،لم أفتخرُ به قط”.
ليرد بقوله :”انتهيتم أم لا؟” لترد هدى قائلة:” ماذا تقصد، يا جابر؟” فيسارعها بالرد قائلاً: “ما بُالك اليوم وكأنك حنونة ليست كعادتك؟” فيصيبها نوعا من الخجل معتريا بالِكبر فهي لم تتغير قائلة:” ماذا تريد ؟هيا أيها الغبي ، أخبرنا” ، فيأتيها الرد فجأة تسمع صوت منشار كهربائي ينشر يدها فتصرخ:” جابر، يكفي! ما هذا؟! ،أرجوك توقف ” ثم يأتي دور أخيه ليُنشر قدمه كاملة فيصرخ “جابر، ما هذا ؟”ودمائه تتناثر على وجهه وبعدها يأتي دور ابنه ليُنشر رجله ويده وهو يصرخ:” أبي يكفي، أرجوك وهو يحتضر وجعاً ،أبي يكفي” والأم تصرخ “هذا ابنك كيف تصنع بابنك هكذا” ثم يقول:” الآن هو أبني ،ألم يقل قبل قليل ليته لم يكن أبي يوماً ” ,فتسأله: “من أين لك هذا المال؟ ماذا دهَاك ؟اتركنا لنضمد جروحنا ,سنموت من النزيف” ليفتح الستارة على مكان مخفي داخل الغرفة فتُصعق من هول ما رأته وكأنها في كابوس لا يٌصدق، فتجد رجل ميت مقطعٌ إلى أوصال محروق مشوه مورس فيه شتى أنواع العذاب بلا رحمة فيردف قائلا: “هذا كان ينعتني بالغبي ولديه أموال طائلة من التسول وهذا قصره والهاتف الذي اتصلت به كان هاتفه ،لكنه اليوم نال جزاءه الذي يستحق واليوم أنتم ستنالون نفس الجزاء جراء ما فعلتموه بي” لتردف هدى وهي باكية ومرتجفة قائلة وكأنها تشاهد فيلم رعب والدماء من قدميها تنزف:” أنت لست جابر، أنت وحش.. “ظلت تٌرددها كثيراً فما هي إلا دقائق وأخذ المنشار وقطًعَها وأحرقَها وهو يقول :”أنا جابر، لست بوحش” وهكذا فعل بالبقية وهو يرددٌ عبارة “أنا جابر، لست بوحش” وبعد أن أنتهى ،كانت المرآه الوحيدة شاهدة على كل تلك الجرائم التي قام بها وفجأة غضب وثار على المرآه ليُخيل له بأنه هناك صدى يُسمعه من خلفها وكأنها تنعته “بالوحش ” ليقوم بكسرها بمنشاره ،لتتطاير أجزائها على وجهه وجسمه وأخيراً تستقر واحدة في رقبته وكأنه عقاب من الله على فعلته، ليلفظ آخر أنفاسه وهو يردد عبارات أمه :” أنا جابر، جابر الطي…..”

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!