كتب. نجم الدين سمان. كوابيس السوري “س”

لآفاق حرة

كوابيس السوري “س”
بقلم. نجم الدين سمان

بينما كنتُ في ترامواي مدينة بيزانسون الفرنسيّة وجدتُ هاتفاً نقالاً على المقعد بجواري؛ فقرّرتُ تسليمهُ للسائق؛ ما أن لمَستُه حتى أضاءت شاشته؛ دفعتني غريزة الفضول للبحثِ في مُحتوياته حتى صرتُ شِبهَ مُتأكدٍ وأنا أقرأ مُحتوياتهِ بأنه لمُهاجِرٍ ما يزال يستخدم اللغة العربية مثلي.
كانت أرقام الهواتف القليلةِ المُسجَلَة في ذاكرة الجهاز لأشخاصٍ أعرفهم؛ قلتُ لنفسي: – هذا مهاجرٌ سوريّ أيضاً؛ يعيش في المدينة نفسها؛ وهذه فرصة لأتعرَّف عليه.
حاولتُ اختيار رقمٍ موجودٍ في الجهاز ليدُلّني صاحبُ الرقم على صاحب النقّال.. وهكذا أتعرًّفُ إليه.
لن أُسلِّمَ النقال الضائع لسائق الترامواي؛ سأسلمه بنفسي لصاحبه؛ تبقت لي سبعُ محطاتٍ لأنزل قاصداً السوق الشعبيّ الأسبوعي في المدينة؛ أتبضع منه حاجياتي الضئيلة بأسعارٍ أقلَّ من السوبر ماركت.
تعويضُ لجوئي الشهريّ ضئيلٌ جداً؛ وبعد دفع الفواتير.. يبقى لي أقلُّ من 10 يورو يومياً أصرفها بحرصٍ شديد؛ وحين أُرسِلُ لأحدٍ داخلَ سورياً مبلغَ مُساندةٍ ولو ضئيلاً.. أدخلُ في سَيرورة الصَوم البوذيّ.
في حافظة النقّال.. سَجّلَ مَن سأسمّيه “المواطن س” بعضَ ذكرياته مُؤرخةً باليوم والشهر والسنه؛ وأغلبُها كان قد كتبها في سنوات تغريبته المُتعددة.
*- ذكريات من عام 2012:
حين استقليتُ سيارة تكسي “طاكسي.. كما يلفظونها” في الجزائر العاصمة؛ قلت للسائق: – باب توما.. حارة البولاد.. لو سمحت.
التفتَ السائقُ الجزائريّ إليَّ مدهوشاً: – شكون تِهدَر “ماذا تحكي” إنتَ؟ّ!.
فاعتذرتُ له: – سامحني.. هذا كان عنوانَ بيتٍ سَكَنتُهُ في دمشق.
*- ذكريات من عام 2013:
حين صرتُ في مصر وذهبت إلى مُجمَّع ميدان التحرير لإنجاز ورقة الإقامة المؤقتة؛ أعطتني الموظفة المصريّة ورقتين لأملأهما بالمعلومات.
أعدتُ لها الأوراق؛ قلّبتها.. ثمّ سألتني:

إنت ساكِن فين بالضبط ؟.
في الجيزة.. 22 شارع كذا..
أشارت بإصبعها: – إيه العنوان دَه.
قرأتُهُ.. كان عنوان البيت الذي سكنتُهُ لسنواتٍ في حلب.
*- ذكريات عام 2015
في استانبول.. استفيق كلّ يومٍ على حُلمٍ مُزعج؛ أرى نفسي فيه مرَّةً في شوارع حمص أسال عن عنوان الغرفة التي سكنتها؛ مع أنيّ أعرفه تماماً.
*- ذكريات عام 2020:
صارت مناماتي مُسلسلاً من الكوابيس لا تنتهي؛ أبحث فيها عن أماكن كنتٌ في بلدي قد عِشتُ فيها؛ أمشي إليها في كوابيسي.. أمشي كثيراً.. ولا أصِل؛ وحين استفيق أصحو مُكتئباً وفي رأسي صداعٌ وروحي مثل عصفورٍ ضَلَّ طريقه.
وصل الترامواي إلى المحطة التي أقصدها.. نزلتُ ومعي الجهاز النقّال الذي وجدتُهُ؛ اتصلتُ باسمي الموجود في لائحة الجهاز.. لأسألهُ عنّي.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!