كتب نجيب كيالي. “تحريك الحصى”. قصة قصيرة

لآفاق حرة

تحريكُ الحصى
قصة قصيرة

بقلم. نجيب كيالي. سوريا

ماءْ.. ماءْ.أسمعُ الكلمةَ من جوفي. من جوفِ الأولاد وأمهم.
الجميعُ ظامئ، الجميعُ مشتاقٌ إلى رؤية الماء.
رؤيتُه في كأسٍ أو إبريق تبلُّ الظمأ، كأننا حينَ نعطش نعطش بألسنتنا وعيوننا..!
من الشرفة.. من خلف الزجاج أسمعُ صوتَ أصيصِ الزرع يهتف: ماء.
إنه الأصيصُ الوحيد الباقي في بيتنا، كان له إخوةٌ كثيرون، أهملناهم رغماً عنا، ثم توفاهم العطش في زمن الحرب!
زوجتي معروفةٌ بمودتها للنباتات.. بأمومتها نحوَها، تتفتحُ أزهارها في قلبها قبل أن تتفتحَ في شرفتنا، تُعرِّشُ اللبلابةُ على ضلوعها قبل أن تُعرِّش على حائطنا.. لذلك كلما ماتت نبتة أقامت لها مأتماً صامتاً في عينيها.
الحرب.. الحرب.. الحرب!
طوتْ من أعمارنا أربعَ سنوات..!
الحربُ جَشِعَة أخذتْ منا كلَّ شيء.. حتى وصلَ الأمرُ إلى أباريق الماء، أفرغَتْها، وتركَتْنا للظمأ..!
مرةً أخرى يتردد النداءُ في بيتنا: ماء.
يرتفع، يحاصرني، أسمعُه يأتي من الأبواب والنوافذ! هل تعطش هذه أيضاً؟ أم هي تتعاطف مع الظامئين، فتشاركهم في هتافهم؟
ماذا أفعل؟
ليتني كنتُ ساقيةً أو خابية لقلتُ للجميع: تعالَوْا.
أدورُ بين الغرف!
أسعى كهاجرَ بين الصنابير المقطوعة!
ماذا أفعل؟ أنا ربُّ أسرة، وربُّ الأسرة عليه أنْ يؤمِّنَ الماء.
أركض إلى الحذاء، أضعُ قدميْ فيه، وفي نيتي أن أذهبَ إلى المَنْهَل، وهو حنفيةٌ جماعية.. حنفية إسعافية يصطف عندها طابورٌ من أهل الظمأ.. طابورٌ له أول، وليس له آخر.
أحملُ (الجالون) ، أهمُّ بفتحِ الباب، لكنني أسمعُ ضحكةً ساخرة.. ضحكةً قادمة من حذائي، يهمس الحذاء:
– قبلَ نصف ساعة كنتَ هناك، ووجدتَهُ مقطوعاً. هل نسيت؟!
يُذكِّرني الحذاء أنني ذهبتُ إلى المَنْهَل ستَّ مرات هذا اليوم، وأنني فتشتُ عن صاحب صهريج أربعَ مرات، يحكي ويحكي، وكأن تاريخَ ظمئنا مكتوبٌ على جلده!
أعود إلى سعيي بين الصنابير، أفتحُ النافذة، مشهدُ الأبنية في الخارج مخيف..! هل هذا جحيمُ دانتي الذي قرأنا عنه في (الكوميديا الإلهية)؟!
هل يستطيع قلمٌ أن يكتب؟
هل تستطيع ريشةٌ أن ترسم؟
إنَّ لوحةَ الحرب لا ترسمُها إلا الحربُ نفسُها.
عند حلول المغرب يأخذ نداءُ الماء في بيتنا نغمةً موجعة!
لقد ترنَّحَ أو تَعِبَ من نفسه، فصار مبحوحاً!
عيونُ الأولاد- رغم ذبولها- أشعر أنها تتهمني بالتقصير. أتذكَّرُ أبي الذي كان يضحك قائلاً: الصغير هاهاها يظن الكبير على كلِّ شيء قدير!
أخيراً.. تخطر لي فكرة: لماذا لا أقلِّد تلك المرأة التي طبختْ لأولادها الحجارة، أَلْهَتْهم بذلك، فحلموا بالطعام، ثم ناموا؟
كعاملٍ نشيط أجد نفسي في الحارة، بين يديَّ قِدْرٌ أملؤها حتى منتصفها بالحصى، أقفُ أمام الأولاد كمعلم صف، أقول:
– هذه الحجارة أصلُها ماءٌ يا أعزائي. إذا وضعناها على النار عادت إلى أصلها. الأمر يحتاج إلى وقت، وإلى تحريكٍ دؤوبٍ بالملعقة. هيا استلقوا تحت اللحاف، وأنا سأذهب إلى المطبخ، فإذا سمعتم من هناك خشخشةً عذبة، فاعلموا أنها خشخشةُ الحصى الذي سيعودُ ماءً بإذن الله.
ترسل لي عيونُ الأولاد برقيةً صغيرة: نصدِّق يا بابا، لا نصدِّق. هل ما تقوله معقول؟!
يذهبون إلى تحت اللحاف، لا يستطيعون النوم، وأنا أُحرِّكُ وأُحرِّك، لعل النوم يصل إلى أجفانهم!
                  *

24/6/2015

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!